في التجريب الصّحفي(7)

Views: 81

محمّد خريّف*

في التحوّل من التّجريب الصّحفي العادي إلى التجريب الصّحفي الفني تحوّل في الرؤى والمواقف من الكتابة عامة، و للتجريب الصّحفيّ أن يتسع مفهومه فيشمل كل ما يحبّر على الصحف بما فيها الكتب والمجلات. والتّجريب الصحفي الفني عندي يبدأ مع ولعي بالنقد الأدبيّ ولاسيما مع الاطلاع نماذج من علم المناهج الحديثة في النقد بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي . زادني الانخراط في هذا التوجه الجديد في تناول النصوص الشعرية بالنقد الحديث شغفا بدروس أساتذة اللسانيات بالجامعة التونسية(انظر كتابي في السيميائية العربية نشرنينوى-دمشق 2017) فكانت مدخلا إلى التبحّر في قراءة أعمال تشومسكي ورولان بارط وتودوروف وجيرار جينات و غيرهم من رواد الدرس النقدي الجديد فكانت لي محاولة أولى في القراءة الأسلوبية لمجموعة التونسي حسن نصر” ليا لي المطر” نشر نص منها تجريبي في” دراسات عربية ” هذا وتحوّل عندي نهم الولع بتسجيل اليوميّ الطافح على سطح الأحداث إلى شهوة تصيّد ما يصدر من كتب مشغلها دراسة اللسان والأسلوب و الإنشائية فكان مني أن جربت في الأسلوبية والنثر والنثرية  إذ نشرت في البداية مقالات في دراسات عربية وكتابات معاصرة والقدس العربي(سابقا) نشر معظمها في كتابي الأول ( استعارة الاستعارة1993 )) كما نشرت محاولتي السردية الأولي في كتابي( حليب العليق1994)

 

 

من تجربتي

*

استعارة الاستعارة وحليب العليق وتأويل التأويل

**

حليب العليق// خربشة خربشة

***

في الخارطة النقدية للبلاد العربية خلال التسعينات من القرن الماضي غالبا ما تنعت كتابة النثرية وهي غير كتابة النثر بكتابة الهذيان وفي ذلك ضرب من الاستهجان  والاستخفاف بالتجربة التي أخوض غمارها بمفردي  الآن هنا  يشذ عماهو عليه الأمر في الخارطة الإنشائية للغرب وهي خارطة مفتوحة على التجديد اللا محدود ومنه الهذيان الواعي و نحو الكتابة فيه مختلف  ينظر إليه كما ينظر  إليه باعتباره من مظاهر البدع التي تستحق الازدراء واللامبالاة ، لذلك لم أسع  في كتاب  “حليب العليق” الصادر  عام 1994 إلى وضع عنوان ينعت ليفسر فيلخص مضمون كتابة لا يلخص ، ولا أحب لها أن تكون كتابة تقرير تجمع في كتاب في مفهومه التقليدي الدينيّ يكون قامعا صارما لكل تمرد ابداعي مختلف ، بل سعيت إلى ابتكار عنوان ثان مواز لا يلخص ولا يوضح ولا يفسر فكان ” خربشة خربشة” أو خربشة في إبهام البصمة” وهو عبارة عن تمثيل لغوي  لحركة فيزيائية تضيف الأمر إلى مثيله فينشأ عن التركيب المتجانس المعنى المتنافر فيتولد تبعا لذلك الغموض من الوضوح والإضافة هنا ليست قرينة تملك ولا نسبة تعريف أوهي تحديد كما يجري به الاستعمال في بلاغة النحو التقليدي، فيفتح بذلك الباب لمجالات التأويل والتأويل المضادّ  بلا انتهاء، ولعل الظفرالمستحيل بفروق الفصل بين النثر والنثرية  يظل ممكنا  لمشروع كتابة واعية بلاوعيها  مختلفة  مع كتابة النثر كتابة الفوق اللاّواعي واهما جمهوره الساذج  بوعيه القائم في الضمائرببُنى دساتير جمع ومنع منها يستنبط نحوه وصرفه وبلاغته . وما “خربشة خربشة” سوى خربشة اليد تقطع  دون طلاق نهائيّ مع  خربشة الذهن الطفوليّ الساذج ، لذا فان النثرية بهذا التمثّل  تصبح في حاجة  إلى خصب  التجريب الصحفي المفارق المختلف بعد المرور بالتجريب الصحفي المشبه بالقول المأثور والمثل السائر ،ولو كان السعي متواضعا، والصدام قائما بين التجريب التقليدي والحداثي وما بعد الحداثي بفعل الأنا الهنا والآن.

 

لذا فان كتابة النثرية  مشروع لغويّ دأبه الهدم والبناء الذي لايكتمل سعيه اللامتناهي  إلى تمثل كتابة الخربشة  الواعية بكل ما تعنيه جركة الخربشة الحرة  واعية لاواعية  متحرّرة من قيود العقل اللساني وأنحاؤه الكثيرة المعقدة المبسطة ترزح تحت ركام  الكتابات التقليدية يمحو بعضها البعض يتآكل ليترسب في قوالب يحشر بعضها بعضا في أسفار تحويها رفوف مكتبات تشهد زورا  وبهتانا على خلود الأرواح محبّرة في قراطيس صفراء أوفي أقراص اليكترونية و لا حراك لسواكنها فتغدو خربشات على خربشات  ينخرها السّوس فتبطل صلوحيتها  و قد يأتي علي بعضها النسيان وحروف الكتابة شبيهة بعظام الموتى قد لا يحييها خالقها وهي رميم.

  تجربة حليب العليق

      ومختلف الردود   

لا أدري أمن سوء حظ  تجربة الكتابة المختلفة في “حليب العليق” أو من حسنه أن يكون لها ردود فعل كثيرة قد تصل  إلى حد الحماس فالهجوم الشرس عليها  عند صدور “حليب العليق بلاجنس ولاهوية أدبية عام  1994وهو الهجوم الذي لم يكن أقل ضراوة  من الهجوم على كتابي النقدي ” استعارة الاستعارة” وغيره من الإصدارات(هذا وان لم تكن رغبتي الردّ على هذه الهجومات  ولا فائدة غي الدخول في متاهات الجدل أوالثرثرة غير المجدية  والتي تثار في العادة حول إصدار من الإصدارات لترويجه أو وأده  في المهد ولعل الصمت يكون  مفيدا في ذلك الوقت- وان كانت ردود الفعل هذه لا تخلو من إشارات بدت لي وجيهة  جدير بالتوقف عندها وهي منشورة في صحف ومجلات ناطقة باللغتين العربية والفرنسية

لقد جاء في جريدة أخبار المصرية عدد105  الصادر في 16 جويلية1995″ حليب العليق نصّ روائيّ  ينحو نحو الشعر في أجواء فنتازية ساخرة” هذا ولأخبار الأدب زمن كان يشرف عليها الروائي الراحل جمال الغيطاني دور في التعريف بالأدب العربي الحديث والمعاصر ولا سيّما التونسي، وهو لا يتردّد في نشر النصوص التي يراها وجيهة من الناحية الأدبية( أذكر أنه خصص لي في عدد من أعداد جريدة أخبار الأدب صفحتين كاملتين بعنوان” في الخطاب الروائي العربي المعاصر..) كما جاء  في الصفحة الثقافية لجريدة “لوطون” التونسية الناطقة بالفرنسية  في عددها الصادريوم الأربعاء 29 مارس  1995 بأن الهدف الأساسي للكاتب تنمية       اللا معنى  بالهذيان بالتمرد  على أدبيّة اللغة العربيّة  قديمها وحديثها  دارجتها وجهويتها  ولذا يتحدى الراحل نبيل رضوان  صاحب المقال  كل قاريء يجد  في حليب العليق حافزا واحدا على المضي في نقده أو حتى  القدرةعلى فهم البعض منه  في درجته الأولى . ولصفحة “لوطون ا التي كان يديرها الصحفي والروائي التونسي محمد رضا الكافي دور لافت في التعريف بإصداراتي الأولى وقد تناولها بالتقديم إلى جانب  نبيل رضوان كمال بن وناس  ومبارك الغرياني وثلاثتهم من الجامعة التونسية ” شعبة الآداب واللغة الفرنسية . 

جمال الغيطاني

 

كتب كمال بن وناس  في الصقحة الثقافية من جريدة “لوطون” المذكورة  بتاريخ  18 جانفي 1995 يقول في ما ترجمته ”  “كتاب حليب العليق  يختلف  أو يتفرد عن كل ما ينشر في تونس وهو نص ناشيء عن لذة الكتابة” لكن ماهو مقبول عند ابن وناس يظل مرفوضا عند رضوان  ولمبارك الغرياني رأي قي المسالة منشور بنفس الصفحة من جريدة “لوطون”.

جون فونتان هو الآخر الباحث المعروف بحرصه على العناية بالأدب التونسي المعاصر كان هو بدوره من الأوائل الذين اهتموا بكتاباتي وقد المشرف على مجلة ايبلا في مكتبة الآباءالبيض بتونس  وقد نشركتبا عن الأدب التونسي منه كتابه 100″ سنة  من لرواية في تونس” وقد وصف كتابتي في مقال له حواه كتابه بانها صعبة.

من دراسات عربية إلى كتابات معاصرة

بعد المرور بتجربة الكتابة في” دراسات عربية” وقد ضمت إلى جانب مقالات مطولة نسبيا حول أعمال وليد أبي بكر والمأساة والملهاة في الأدب العربي  والطفل والسمكة لحسن نصر قراءة في الأدب المغربي الناطق بالفرنسية الليلة المقدسة للطاهر بن جلون كانت بداية صلتي الأدبية بمجلة “كتابات معاصرة”لصاحبها الشاعر اللبناني الياس لحود سندا لتجربتي التي تراها مختلفة وحرصت على نشر نماذج من محاولاتي وكانت في ذلك ضد تيار الرفض الجارف لاسيما في الداخل وقد قدمت  كتابات معاصرة  كتاب “حليب العليق1994″ بمايلي: ” صادر في تونس بطبعة خاصة ، بعنوان (حليب العليق)أو( خربشة في ابهام البصمة) وكل شيء كاسر ومكسور… 

كتابة محمد خريّف لاتنتمي ،ترفض تكسر زجاجها  على الأرض تنثره  فوق المجال  خربشة بالظفر والناب أكثر مماهي خربشة في إبهام البصمة  كما يحلو للنص أن يعنون  ويترك اسمه المجهول في أكثر من مجال للصفحة.

 

      خربشة حرة  لحالة بلوغ واكتمال: لغة محمدخريّف تمشي ، تكسر  لغة الوقوف ، ونقاط التوقف  الأولى والتانية والثالثة ….ولا تقف إلا في ال”إلى آخره”. (Xanax)

نعم خربشة حرة  لحالة بلوغ واكتمال:.

أشهد أنها لغة صعبة  على القاريء المعبأ ، سهلة على القاريء المفرّغ  من الذاكرة  غير الصورية  قي هذه الحالة ، لغة تخترق التجنيس  أيضا إلى اللاّجنس ….قل أخيرا اللانصّ…..تجربة تستحق التوقف  بعد لاتوقفها ، تجربة “لاتجربة “في الهامشي كذلك .

وربما كان هذا يشي  في حالة واحدة ،  حالة الكتابة غير المتمكنة  من لغتها ومعرفيتها ، وهي ليست قطعا  حالة كتابة خريّف  البالغة حدّ نضجها أي” استهتارها  الواعي ” في درجات مختلفة  من لاوعيه، إنها الطريقة الوحيدة  التي تنجيها  من حضور نص الأخر  في كتابتنا ، ولكن إلى أي خربشة عاقلة يكون هذا مقبولا؟ *كتابات معاصرة العدد 25 أيلول تشرين الأول 1995 بيروت / لبنان

 

على هذا النسق وغيره من التنازع بين الإقبال الفاتر على دروس المرحلة الثالثة في كلية الآداب بتونس وقد انتقلت من 9 افريل إلى ضاحية منوبة وبات من الصعب علي التوفيق واجب التدريس في الثانوي بالوطن القبلي والتفرغ لمناظرة التبريز لذلك جرفني سيل الانخراط في ما يعرف بالتجريب الصحفي الأدبي المختلف فكان لجنون العشق أن يتملكني ولا يفتأ يفارقني فأغدو متصوفا على غير العادة وفي ذلك مرة تغذي بصيص أمل في القطيعة ينتابني فيعمّرفي مفاصلي ليحولني إلى كائن سيميائيّ مختلف يتزعزع الصارم اللغوي فيه برغبة الاطلاع  على كتابات بريتون وبول ايلوار وصاد  وغيره من الكتاب المتمردين ولعلي أذكر كيف كنت  أقدم على “جمل بقادومة” وأنا أحاول تقديم عرض حول “روساي”  أمام طلبة قسم الفرنسية بإشراف موننمشار أستاذ الشهادة التكميلية في مناهج النقد الفرنسي  سنة التخرج( وكم كنت أعشق أسلوب هذا الأستاذ في شرح قصائد من الشعر الفرنسي الحديث وخاصة من ايقزيزستاي لجون فولان) فمنذ ذلك الوقت دبت في شراييني دماء دودة الولع بالاختلاف وهي دودة بديلة تنقض ما خلفته فيّ دودة التجريب الصحفي من رواسب الحنين إلى ثقافة الوقوف على الإطلال.

 

هكذا أفجا برجة تقلعني من جذوري الوهمية حين أقدّر أن ما تعلمته وما قدرت على استيعابه من دروس  الفقه اللغوي في شعبة العربية من معارف تكرس أوهام اليقين اللغوي في صرامة قامعة واهمة لا تتماشى ومزاجي الجديد وفتحت لي أبواب العناد فالمقاومة والاسترسال دون تراجع ولاندم في مهب عاصفة  الإطلالة على آفاق اللا محدود ومن رماد الفشل في الحصول علي شهادة التبريز في اللغة العربية بسبب الفرنسية تقدح شرارة الأمل في الطريف لإافيد من حيث لا أدري من صدمات الخذلان والاحباط حيث تمكنت بروح المكابدة على تجاوز عقبات اللغة الفرنسية فصرت أكتب بها وأن على قناعة من أن  العيب فيّ لا في اللغة وبذلك كانت لي فرصة “الميتامورفز” من كائن سيميائ الى كائن آخر مختلف

(يتبع…)

***

(*) كاتب من تونس

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *