سجلوا عندكم

“طائرُ الرَّفراف” (سيرة روائيّة)  جديد ربيعة أبي فاضل عن “دار نلسن”

Views: 82

صدر عن دار نلسن في بيروت كتاب “طائرُ الرَّفراف” (سيرة روائيّة)  للدكتور ربيعة أبي فاضل. في ما يلي المقدمة في عنوان “نافذة: رَيَّانُ الرَّفراف”:

 

¬الرَفرافُ طائرٌ إذا رأى ظلّه في الماء أقبل َ إليه ليخطَفَهُ. قيلَ إنّه كالظّليم، ذَكرِ النَّعام وَيُقاربُ الرُّخَّ، بَعضُه منَ الجمل، شأن العُنق، وبَعضُه منَ الطّيرِ، شأن الجناح، يأكلُ الحَصى والجمرَ، ولا يَشعرُ بالضُّرّ! وقيلَ لونُه أغبرُ إلى البياض، ومن معاني أَغبرَ: الذّاهبُ والزّائلُ، وَمِنه قولُهم: لا يَغُرَّنَّكَ عزُّ الدُّنيا فإنَّه أغبرُ، لا بقاءَ له.

 نحن في دنيانا، نحاولُ خطفَ ظلالِنا، فإمَّا نتركُها تركَ الظَّبي ظلَّه، ولا تلفُّتَ نحوَها، أو نبقى كالقِرِلَّى – الطّائر، يقفُ على وجه الماء عَينٌ على القعر وأُخرى إلى فوق، فإنْ رأى خيراً تَدلَّى، وإنْ رأى شرّاً تولَّى، ويرافقُه ثلاثةٌ: الحزمُ، والحذرُ، واللَّعبُ مع الظّل الذي يتَّخذُ كلَّ حضورِه مِنَ الذَّات والنُور، وبَسْطِ الوجود. فالنّورُ يُظهرُ الظّلَّ لأَنّ امتدادَ هذا الأخير ليس مِن نفسه!

إنَّ روايةَ الرّفراف هذه تلعبُ مع الظّلال، فَلِكُلّ مرحلةٍ من حياةِ المرءِ ظلُّها، يُحاولُ الرّفرافُ خَطفَ ما استطاعَ من ظلالهِ أو الَّنأيَ عَما يزعجُ رحلتَهُ، أو نسْخَ ما ارتسمَ من ظلالِ الأمس، والدُّنيا، على تراب جَناحَيه! هو في السَّبعينَ يَقفُ عينٌ على السُّحُبِ، وثانيةٌ على ريشهِ، وتَتراوحُ حالُه ما بين الرَّيَّان(*) والعطشان، وما يَرويهِ للطُّيورِ العاشقة إنّما هو حياةٌ وخيالٌ وجمالٌ، وأُفقٌ له ظِلالٌ، مِنَ الفجر إلى الغياب!

 والظّلالُ لا ترمزُ إلى البدايات، والحالات الهشَّة النّازلة وحسبُ، بل هي تُشير إلى طفولة، وتُنبئُ بولادة جديدة، وتُنشّط وَتُوقظُ، وتُدفئُ، وَتُشعلُ… وقد قيلَ عن صلة الطّير بالسّيمرغ (ملك الطّير، وراء جبل قاف، هو قريبٌ، وَهْيَ بعيدةٌ، في “منطق الطيّر” لفريد الدّين النيسابوري المتوفَّى في أوائل القرن السَّابعِ).

إنّه (السّيمرغ) تجلّى كالشّمس من وراء الحُجب، فوقعت على الأرض آلاف الظّلال، والطّير هي هذه الظّلال.. تسعى عبر أودية المعرفة، والعشق، والاستغناء، للوصول إلى الفناء والبقاء… وخلال العُبور تَمّحي في ضوء الشّمس، آلاف الظّلال، ولا يصل إلى العزّة إلّا قلّة من آلاف أبناء الحيرة، كلّما اقتربت ضاع ظلّها في الشّمس… وقد قيل قديماً، إنّ أشعّة الشّمس لا تختلف عن الشّمس، والموج الطّالع من البحر لا يختلف عن البحر، والشّرر الشّارد من النّار هو النّار، وإنّ النّفس المنبثقة من الذات الإلهيّة هي إلهيّة.

ولأنّ بشرَ الرّواية، وأبطالها، وآلهتها، تبقى جميعها باردةً وبعيدةً، ومن حبرٍ يفتقرُ إلى الحياة، قرّر ريّان أن يَبني نصّه بنبض الحياة، وبهاء النّظم والجمال، فسمّاه “سيرة روائية” وهو يحتوي على نوعين فنّيين هما السّيرة والرّواية، ما سمح له بتركيز البناء عبر خيط الذّات وزمانها ومكانها وحركتها ورؤيتها وتمدّداتها وفضاءاتها وذوقها وخيالها وعالمها كلّه…. وهو عالم القرن الحادي والعشرين. علماً أنّ ريّان أبصر النّور في قلب القرن العشرين (1 تشرين الثاني 1950)، وكتب “طائر الرفراف” وهو شيخٌ اعتزل الدنيا وإيقاعاتها، ونسج حالة خاصّة به تحرّره من أشياء كثيرة إلّا من وهنه الجسديّ، وَمُعاناته النفسيّة والروحيّة، وبينهما معاناةٌ مشرقيّة آخر محطاتها لبنان وقد أُشقيت عيشته، وغطّاه قدرُه بالكلوم!

وكانت هدى رزق، وهي زميلة ريّان في الجامعة، تكرّرُ أمامه: ’’متى سَتَكتب رواية؟‘‘ وتَكرَّرَالجواب: ” عندما تقرّر هي أن تُكتبَ! ’’وكتب النصّ بعد ثلاث وثلاثين سنة! وهو ليس روايةً بالمعنى التقليديّ. فبعد بناء هذه السّيرة الروائيّة، قرأ ريّان في كتاب جاد حاتم: Schelling, l’angoisse de la vie (ص 115) المقطع الآتي، وهو يوجز موقف شللنغ وكوهين وحاتم نفسه، قال:

Il n’est de vie d’homme qui ne soit l’univers en son entier; il me plait de répéter ici des mots de Schelling, dans le Âges du monde: Celui qui serait à même d’écrire l’histoire de sa propre vie écrirait, en même temps, une histoire brève et résumée du cosmos”. Or il n’est à mon sens, de fable, de poème, d’essai, de récit, de narration, en un mot tout écrit, qui n’y participe

والفحوى الذي يتناغم معه ريّان، حتماً، أنّ الإنسان في حياته الفرديّة، يمثّل الكون الشّامل، لذلك، عندما يكتب سيرته الذاتيّة إنّما يعبّر، في الوقت نفسه، بخفر، عن حياة الكون. وبدت الأنواع الأدبيّة لحاتم في معظمها، مؤهّلة للتشارك حول هذه المَهمّة الموجّهة نحو الدّاخل والخارج، لكونهما في وحدة مُتراصّة. وهذا الانفتاح للسّيرة الرّوائيّة، يمنحها دائماً، مدى جديداً وفضاءً واسعاً يضّم في رحمها العميقة ما لذّ وطاب، وعنَّ ببال القلب، والدّمع، والخيال، من سفرٍ، وتجريب، وأحوال….

 

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *