قصة قصيرة/ سجينةُ الذّاكرةِ
ديانا جورج حنّون
كلُّ مَنْ مرَّ بتلك الصّبيّة الجالسة على كرسيّها الخشبيّ في حديقة منزلها الجبليّ، جامدة كتمثال لا حياة فيه، حَزنَ لحالها، ودعا لها بالشّفاء.
كعادتها، مع شمس هذا الصّباح الخجولة، جلسَتْ على كرسيّها الخشبيّ، ظهره لصيق بجذع سنديانة عتيقة، في حديقة منزلها الجبليّ، بين يديها كتاب مفتوح، تنظرُ بشرود إلى وردة قرمزيّة ذابلة البتلات. أخذَتْها، وقرَّبَتْها من شفتيها، وقبّلَتْها بشوق. تنهّدَتْ، وبصوت مخنوق، هتفتْ باسمهِ: “آخ، يا “حميد”، وغصَّتْ.
آلمَتْها تلك الذّكرى التي نحرَتْها ورمَتْها على صخرة الوجع والحرمان. فأغمضَتْ عينيها السّوداوينِ، وأرجعَتْ رأسها إلى الوراء، واستسلمَتْ إلى وجع حملَها إلى لحظة، تعرّفَتْ فيه وريقات الوردة الحمراء إلى دفء قبلة من شفتيه، فكَرَجَ دمعها على خدّيها.
في ذلك اليوم، وهي جالسة على كرسيّها الخشبيّ، قرّبَ “حميد” وجهه من وجهها، بيده وردة قرمزيّة البتلات، وأعطاها إيّاها بعد أنْ لامسَتْ شفتيه، وهو يرمقُها بنظرات ألهبَتْ مشاعرها وأحاسيسها. فتسارعَتْ دقّات قلبها، واحمرَّتْ وجنتاها، وهو يهمسُ في أذنها: “دعيها تذكّرُكِ بي مع كلّ إشراقة شمس وغروبها، مع كلّ زقزقة عصفور، مع كلّ أغنية حبّ، مع كلّ قطرة مطر. ستخبرُكِ بأنّكِ حبّي الوحيد، وربيعي الأخضر الدّائم، وواحة سلامي وعشقي، وشوق روحي.
آلمَها واقعها الممتلئ بذكريات حبيبٍ غابَ عنها وتفتقدُهُ بقوّة. بكَتْهُ منذ ثلاث سنوات، وما زالَتْ. بفقدان “حميد” فقدَتْ شغفها بالحياة، فتمنّتْ أَنْ تموتَ. لكنْ ذكراه الحيّة فيها حثَّتْها، وتحثُّها على العيش لتبقى وفيّة على العهد.
وهي على كرسيّها، رأسها الى الوراء، خُيّلَ إليها أنّها سمعَتْ صوته يناجيها، ويقولُ:
“أنا أسألُكِ حبّي الفرح.” رجفَ قلبها، وتلاحقَتْ أنفاسها. ضمّتِ الوردة الذّابلة إلى صدرها، وغابَتْ في أفكارها مجدّداً.
كان الفرح كلّ الفرح لها لو لمْ تكنْ يد القدر باترة.
عاشَتْ أجملَ حكايا الحبّ والعشق، وهو يلبسُها خاتم الخطبة، ويعاهدُها على الوفاء.
عاشَتْ هذا الحبّ، الحبّ الأوّل، كأنّها في حلم ورديّ لا تريدُ أنْ تستفيقَ منهُ.
وكأنَّ القدر اشتعل غيرة من العاشقَيْنِ الفتيّيْنِ، فأغمدَ سكّينه الحادّ في أحشاء سعادتهما، وأَماتَ الحلم.
في يومٍ مشؤوم، “حميد” على جرّافتهِ في المقلع، سقطَتْ عليه صخرة كبيرة وسحقَتْهُ. انطفأَ ودُفِنَ، ومعه شبابها وأحلامها. باتَتْ أشبه بتمثال لا حياة فيه. عزاؤها الوحيد وردة حمراء ذابلة، حملَتْ في بتلاتها أحرّ قبلة من أعذب شفتينِ.
” أُدخلي البيت، يا ابنتي، لقد تغيّرَ الطّقس”.
كلمات مقتضبة أعادَتْها إلى واقعها المرير. وضعَتِ الوردة الثّمينة في الكتاب وأغلقَتْهُ، وقامَتْ عن كرسيّها، وشدّتْ شال الصّوف على رقبتها، وجرَّتْ رجليها جرّاً، ودخلَتِ البيت على أمل أنْ تعودَ في الغد لتستعيدَ ذكرياتها وأحلامها الضّائعة على ذلك المقعد الخشبيّ في حديقتها الجبليّة حيث بثّها “حميد” لواعج قلبه، وأهداها تلك الوردة القرمزيّة الوريقات.
***
*اللوحات بريشة الفنّان التشكيلي Vladimir Volegov