ذكريات مع املي نصرالله  

Views: 42

جان سالمه

* إلى روح الأديبة الكبيرة املي نصرالله 

     كان هناك، في سالف الأيّام، وما مضى من الأزمان، حوريّة جدّ جميلة، جاءت منَ الجنّة. كانت ساحرة مثل كلّ أخواتها الحوريّات، وكانت ذات قدّ رشيق. يميّزها ذلك النّمش القليل الذي كان يحلّي وجهها، ويزيدها جمالًا على جمال!

تأتي إلى محلّنا

     هذه الحوريّة الحسناء، كانت تأتي إلى محلنا في باب إدريس، المقصود من الكثيرين، لتبتاع بعض الحاجيّات. وهكذا، مرّة بعد مرّة، منحتني ثقتها، كي لا أدّعي صداقتها.

أديبة ناشطة

وكنت أعرف أنّها أديبة ناشطة. إذ لم تكن تكتفي بنشر مقالاتها في الصّحف، بل كانت تتوجّه صوب الإذاعة أيضاً. إذ سبق لي أنْ التقيتها في إذاعة الشّرق الأوسط التي كان مكتبها في نزلة محطّة جنبلاط.

    وكنت كلّما أتتْ إلى محلّنا، أغتنم الفرصة لنتحدّث بشؤون الأدب، ومعاناة كلّ من حمل القلم أو خطّ حرفاً.

    لذلك كنت أطلب من أحد الموظّفين أنْ يهتمّ بالزبائن بدلًا منّي، لأتيح لنفسي فرصة التمتّع بكلّ ما كانت تدلي به اليَّ.

إنقطاعها عنّا

     إلى أنْ جاء يوم انقطعتْ فيه زياراتها، من دون أن أعلم السّبب.

     ولم ألبث أن عرفت أنّها التحقتْ بدار الصيّاد. وبما أنّني كنت من جملة المتردّدين على هذه الدّار، كنت كلّما ذهبت إلى هناك أزورها. ولكن كنت أحاول ألّا أمكث عندها طويل وقت، كي لا أقطع عليها وعلى غيرها من المحرّرين حبل أفكارهم.

 

السعيدان العملاقان

     وهناك أيضاً أتيح لي أن ألتقي لأول مرّة بعملاق الشّعر والأدب سعيد عقل. كان هو عند العملاق الآخر في الصّحافة الخالد سعيد فريحة، فتكرّم هذا وقدّمني أليه.

املي نصرالله

     ومّما يجدر ذكره هنا هو أن املي نصرالله كانت دائماً تدعوني بأستاذ جان، وكان هذا يسعدني جدّاً ويجعلني أشكرها في سرّي على تودّدها لي.

     أمّا سعيد عقل فكان على عكس ذلك، إذ كان يأبى إلاّ أنْ يناديني بأستاذ سالمه، على الرغم من أنّني غالباً ما كنت أتردّد عليه في منزله ببدارو، ثمّ في الشارع العريض.

     حتّى في أيّامه الأخيرة وفي حفل تكريمه في صالة الحكمة، وكان هو جالساً في الصّف الأوّل، فتقدمت منه وسلّمت عليه وسألته لأتأكّد من أنّه عرفني بين هذا الحشدالغفير: 

– هل تتذكّرني يا أستاذ سعيد؟

  فردّ على الفور:

– ولو أستاذ سالمه!

     كذلك على الرّغم من أنّه منحني جائزته بتوصية مشكورة من أحد أعضاء اللّجنة وهو الأديب جوزيف مهنّا، فلم يشأ أن يغيّر عادته ويرفع الكلفة بيننا.

طيورأيلول

     ولنعد الآن إلى املي نصرالله. فإنّ اسمها بدأ يكبر ويكبر ككرة الثلج، وبالأخصّ عندما صدرت روايتها الأولى “طيور أيلول” ذات العنوان المعبّر. ولعّل على أثر ذلك منحها سعيد عقل جائزته الشّهرية السّنيّة، وكان هو في شرخ الشّباب، ولعلّه كان أيضاً أمير السّاحة الأدبيّة، بلا منازع ولا مدافع!

جائزة سعيد عقل

     والغريب بعد ذلك أن جاءت لزيارتي في محلّنا على غير توقّع. فلّما رأيتها مقبلة تقدّمت وسلّمت عليها وقبلتها وأنا أصارحها:

– أنتِ اليوم حديث البلد والجميع يذكرون اسمك. كتابك قرأته وأهنّئكِ   على محتواه وبخاصّةٍ على عنوانه. إنه قريب من عنوان رواية “ذهب مع الريح” الذي له كلّ الفضل في الشّهرة العالميّة التي نالها الكتاب، إذ كلاهما يدغدغان أحلام القرّاء، ويثيران فضولهم. واسمحي لي أن أضيف أنّكِ بالسّرعة التي تتقدّمين فيها اليوم، لن تلبثي أن تصبحي في منزلة “بيرل باك” الأميركية.

     أجابت:

– هذا لطف منك يا أستاذ جان.

     والجدير بالذكر أنّني كنتُ أهديها كتبي وأخطّ في الصفحة الأولى البيضاء: إلى “بيرل باك” الشرق.

 

جان طنّوس 

     ولقد تسنّى لي أنْ أزورها أكثر من مرّة بهمّة الصديق العزيز الدّكتور جان نعوم طنّوس الذي وضع عنها مصنّفاً قيّماً تحت عنوان: “دراسة نفسيّة في أدب املي نصرالله”.

     وكنّا في كل مرّة نلتقط الصّور التذكاريّة. أمّا هي فكانت عندما نسألها عن كتبها، تبادروتخبرنا أنّ أكثر رواياتها قد تُرجمت إلى غير لغة. فكنّا بطبيعة الحال نشاطرها فخرها وفرحتها.

سليم باسيلا

     على الرّغم من معرفتي بالأديبة الكبيرة منذ زمن طويل، فإنني ما خطر على بالي ولا مرّة واحدة بأنْ أمنحها جائزتي، وهذا لسببين إثنين.

أولاهما هو أنّني لم أعتد قطّ على أن أفرض رأيي على أعضاء اللّجنة، وذلك تقيّداً بوصيّة مستشارنا أستاذي ومعلمّي المحامي الكبير والأديب المميّز الأستاذ سليم باسيلا. فلقد كان دائماً يقول لي:

– أعضاء لجنتك هم من خيرة المفكّرين، فدعهم هم يختارون حسب قناعتهم. وأحرص على ألاّ يقوم بخلدك أن تتدخّل على الإطلاق.

لماذا؟

     ثانياً: لأنّني كنتُ أردّد في نفسي أنّ املي نصرالله هي أديبة لا كلأدباء، فهل تراها ستتقبّل عرضي، وأنا بعد لستُ بسعيد عقل؟

فلماذا إذن أقحم نفسي وأجازف بمودّتها حيالي؟ إذ كنتُ أعرف من تجربة سابقة أنّ دعوتي قد تُحرجها وترخي بظلّها الثّقيل على علاقتنا.

فؤاد الترك

     فلقد سبق لي في أوّل عهد الجائزة أن طرحتُ الفكرة على السّفير فؤاد الترك، وكنتُ واثقاً تماماً بأنّه سيرحّب بالأمر من دون أيّ شكّ. فكانت النّتيجة أنّه اعتذر بلباقته المعهودة، ولكنّني لم أنسَ قط بأنّ صداقتنا عراها بعض الفتور، شئتُ ذلك أم أبيت!

 

بين البيت والمستشفى

     وبالأمس عندما أشتدّ عليها الدّاء، وراحتْ تتنقّل بين البيت والمستشفى، كنتُ أتلفن لها كلّ يومين أو ثلاثة لاطمئنّ عليها. وكنتُ من أسعد القوم بالتحدّث إليها، ولو للحظات قليلة. (https://www.controleng.com/) وأعلنت لها أثناء ذلك بأنّنا نرغب في تكريمها.

     فاجابت بلطفها المعهود:

– أنا ممنونة جدّاً يا أستاذ جان.

  وكنتُ أضيف:

– لا تخافي سيّدتي، أنا والعذراء مريم أصدقاء قُدم، وهي لا تردّ لي مطلباً، أنا أصلّي لكِ كلّ ليلة، وكلّي ثقة بأنّ العذراء ستشفيكِ لا محالة!

ميشال كعدي

وأمس، إذ كان منسّق الجائزة الدّكتور ميشال كعدي في زيارتي، رأيتُ أن أطلبها على الهاتف ليزّفها هو الخبر.

     وكان حديثاً قصيراً اقتصر على ذكر التكريم، إذ لم يشأ الصّديق ميشال أنْ يطيل أكثر، وهو المعروف بحسن تصّرفه.

خبر غير منتظر

وأمس أيضاً عرفت الخبر غير المنتظر الذي فاجأتني به جان دارك ابي ياغي منسّقة الإعلام، إذ قالت:

– العوض بسلامتك، حلمنا انتهى!

أجبتها:

– لا، حلمنا لم ينته، لأنّ الّلجنة كما تعرفين قرّرت أنْ تكرّمها وإنْ متأخرة. وهي لا بدّ من أنْ ترانا من علياء سمائها وتباركنا.

عادت من حيث أتت

     هكذا إذنْ، عادتِ الحورّية من حيث جاءتْ، بعد أنْ نشرت عطرها بين الخافقين. حوريتنّا ودّعتنا البارحة، ولكن صدى صوتها الدافئ، سيظلّ يطرب أذنيّ ما حييتُ، وسأظلّ أسمعها وهي تناديني:

– يا أستاذ جان!

     أجل حوريّتي الفاتنة رحلتْ أمس برفقة أحدى النّجوم. أو ليس هكذا تفعل كلّ الحوريّات؟

      

 

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *