بترا حاوي يترجّاها الطَّرَب

Views: 992

الدكتور جورج شبلي

عندما أصغَيتُ الى رَندَحتِها، لأوّلِ مرّة، كان سَمعي جريئاً، فقد حسبْتُ أنّ الإرتباكَ سيهاجمُ أنفاسي، وسيضيعُ منّي جوازُ مروري الى ريّاتِ الإنشراحِ، لكنّ الجملةَ الأولى عبرَت بي الى زمنِ المَنابِع، وصرتُ أُتَمتِمُ لحنَ الحنينِ الى ما هجَرَنا من صريحِ الأُصول في المَغنى.

إنّها بترا حاوي، تُلَقِّنُ ثقافةَ الإدهاشِ بالأداء، وكأنّها سِلكٌ ينثرُ لَآلئَ تنفردُ عن أشباهِها، ما يُترِفُ الذَّوقَ، ويُريحُ الإحساسَ، وهي العَروفةُ بالنّغمةِ القَيِّمةِ التي لا تُصنَعُ، بل يُبحَثُ عنها. ولمّا كانَ المَغنى أداةً للتواصلِ بين مكوِّناتِ المشاعر، لِما له من أهميّةٍ في تنميةِ القدرةِ على التّفاعل، وبما أنّه ثقافةٌ يتربّى عليها التذَوّق، كان لبترا، معه، إِلفةٌ اختصرَت المسافةَ بينَ الفَمِ والأُذُن، لتُرسِّخَ، بذلك، سلطانَ الإمتاع.

بترا حاوي دعوةٌ الى معاينةِ إبداعِ اللّامألوفِ في زمانِ العاديّات، فالنّغمةُ تنشرحُ في مفاصلِ صوتِها، وكأنّها تختصرُ عصورَ عظمةِ الطَّربِ الشّرقيّ، وحقباتِ عمره. إنّ صوتَها الرَّشيقَ، والأَنيق، والمُؤَدّى على نَفَسٍ لا ينقطع، إذا تأهَّبَ للنِّزال، فلا يَجرؤُ للتَّحَكُّكِ به أحد. فهو يجمعُ خيارَ اللُّطفِ، الى نَبراتٍ ملتَهِبَة، حتى إذا زادَ شَدواً، زادَ شعورُ السَّمعِ بوجودِه، فزادَ وفرةَ محصولٍ من الآهاتِ هي عِبرةُ النّجاح. 

الطَّربُ يفوقُ كلَّ الأَنماطِ الأدائيّةِ حلاوةً، وصعوبةً، وقدرةً على تعزيمِ الإحساسِ بنشوةٍ يعجزُ الكلامُ عن وصفِها. وعندما خاضَت بترا مُعتَرَكَ الطَّرب، تبعَت خاطرَ المهارةِ في تَطويعِ هَوى صوتِها، وعجمَت مفتاحَ طبقاتِه، واستثمرَت إمكانيّاتِه ليبعثَ دِفئاً في المُهَج، وأحسنَت فكَّ رموزِه ليسلكَ دربَ التألّق.

بترا التي تلقَّفتها الموسيقى واحدةً من المقاماتِ الحِسانِ الصَّوتِ والمُحَيّا، تأبّطَتها موهبةً خصيبةً في عصرٍ شكا عُسراً في بركاتِ الفنِّ الغنائيّ، وجفاءً مُحزِناً مع المواهب، هي التي اكتسبَت جماليّاتِ التّراثِ الغنائيِّ العربيّ، متشَبِّعةً من أصولِه، فأبدعَت في الأسسِ الفنيّةِ الشرقيّة، وطعّمتها بمَنحًى غربيٍّ كلاسيكيٍّ زاهٍ، محدِّدةً إطاراً جديداً للمغنى تطوَّرَ فيه التّعبيرُ اللَّحنيّ، فأصبحَت مساحةُ الفنِّ، معه، عامرة.

لقد رَعَت بترا قريحتَها الموسيقيّةَ، بعناية، وبسطَت فيها جهدَها بَسطاً وافياً، لتولَدَ بخلقةٍ بهيّة، وما أمنيتُها، تلك، سوى سلوكيّةٍ عاشقةٍ للفنّ الموسيقيّ الذي أغرقَت بترا في درسِ قواعدِه، من دونِ أن تضيقَ به صَدراً، وهذا لا يحصلُ إلّا مع المشغوفينَ بالنَّغم، وبترا في عِدادِهم، يسري فيهم، منه، إِقبالٌ على التَّنقيبِ عن أسرارِه ليُصاغَ ما يؤدّونه عقوداً من النّشوة.

إنّ مذهب بترا النِّيوطَرَبيّ يُفصحُ عمّا في ذاتِها من تَوقٍ الى تحقيقِ نقلةٍ نوعيّةٍ في دنيا المَغنى الشَّرقي. وقد اقتحمتِ الأسماعَ بذلك، فكانت نزهةً لها، لِما كان بينها وبين الإبداعِ من أَواصر. ومن دونِ استعراضاتٍ، غطَّت بترا، وبخامةٍ رقيقة، مناطقَ الأداءِ المُبتَكَر بأفضلِ مواصفاتِ الجَمال، وبعذوبةٍ تعبرُ الى القلوبِ بدونِ استئذان. وما أداؤُها دَور “سيبوني يا ناس” سوى تأكيدٍ على أنّ لصَوتِها طابعاً معماريّاً قادراً على رَصفِ النَّغمةِ لنَقلِها من موضوعٍ لِسَمعٍ، الى موضوعٍ لمُتعة. 

وبعد، لن يُكتبَ إسمُ بترا حاوي على صحيفةٍ من فخّار لتُكسَرَ فتُنسى، بل بخيوطٍ مُثَلَّثَةٍ تُكَوِّنُ زاويةً تحتفظُ بالبقاء. ومَن يَعِشْ، يَرَ… 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *