لماذا كتبت “المعلم الأجير”؟*
(مهداة الى الأمين العام للمدارس الكاثوليكيةالأب بطرس عازار لإعلانه في
مقابلة تلفزيونية مؤخرا مطالبته بإلغاء تعبير “أجير”)
(ألقسم الأكبر من مطالعة النقيب السبعلاني الأدبية في محاكمته على قصيدة)
***
أنطوان السبعلاني
يا سيدي القاضي،
طالما أن محكمتكم الموقرة تقاضي الشاعر على قصيدة كتبها، فليتسع إذن صدرها لكلمة عن الشعر والشعراء، وعلى هو اهم، القريب من الجنون، وليس هو بجنون.
“مجانيــــنُ عقــلٍ،غيَر أنَّ جنونـهم
جنونٌ على أقدامه يسجد العقلُ”
ويا سيدي الرئيس يطلع على بالي الساعة، بيت شعر لأمين نخلة:
كم في الملوك مُعَصَّبٍ،أغرى فمــي
وأبيتُ،إنِّي في القريضِ مُعَصَّبُ
وبيت للجواهري:
ألمجدُ أنْ يحميكَ مجدُك، وحْدَهُ
في الناس،لا شُرَطٌ، ولا أنصارُ
وما قاله وديع عقل:
بائسٌ، لكنه، ذو شممٍ
رُبَّ بؤسٍ لا ينافي الشَّمَما
وترنُّ في أذني أقوال لي:
دولةُ الشِّعرِ،لا تربِّي عبيداً
حَسْبنا، أن شِبنا، على عنفوانِهْ
يا سادتي، لا تقرأوا فيه خطابْ
ليس المعلمُ، عندكم، غيرَ الخطابْ
عزائي أنَّني، جرحٌ أبيﱞ
أتى الدُّنيا…ويتركها أبيَّا

ويا سيدي،
إن أبشع ما قالته العرب، بفم المتنبي نفسِه، ما أردده الآن بغُصَّة:
أبا المِسكِ، هل في الكأس فضلٌ أناله
فإنِّي أغنِّي،منذ حينٍ، وتطــــربُ
وأعظم ما قالته، بفم الأعمى بشار، ما تسمعون:
إذا الملكُ الجبَّار، صَعَّر خدَه
مشينا إليه، بالسيوفِ نعاتبُهْ
يا سيدي القاضي، هل الجمالية في الشعر من اختصاص السادة القضاة؟
آه على كلمة “فضل” ما أذلها!
الله الله على كلمة “نعاتبه ما أعظمها!
وهل يحاكم الشعراء في المحاكم العادية؟
وأكثر،هل يحاكم الشعراء؟
ببالي الآن ما قاله “لامارتين” “لفلوبير” حين علم بأمر محاكمته، على روايته الخالدة، “مدام بوفاري”:
آسف أن يكون في فرنسا محكمة تقاضي الأدباء!
وقال اكثر من ذلك، عار على بلادنا أن يكون عندنا قانون يلاحق الأدباء!هذا ما قاله لامارتين في سنة 1857 ونحن اليوم على بوابة السنة 2000.
ويطلع على بالي،يا سيدي الرئيس،أجمل ما قاله شعراء الغرب بفم “هيراديا”:
Car le poète seul peut tutoyer les rois
نعم . الشاعر وحده يقول للملك أنت!
الله، على الفردوسي، وعلى،”الشاهنامة”! وعلى قولته: لا لمليك الفرس!

من يحاكم الأدباء؟
لماذا لم يحاكموا “جورج ساند”على خيانتها الشاعر “موسيه” ؟ على سفرها مع “شوبان” إلى ماجوركا؟
لماذا لم تحاكم باريس “سارتر وبوفوار” على حياة “غير أخلاقية”؟
ويطلع على بالي، يا سيدي القاضي، أنا الواقفَ أمامكم متهيِّباً، غير خائف “راسل”، ضمير الكون، منادياً لمحاكمة رئيس أميركا، جونسون، بسبب حرب فيتنام!
“وسكاروف ” ببالي في ذمة من دماء الأدباء؟ أنا أدَّعي على قاتلي ابن المقفع ، والمتنبي، بوشكين ، لوركا، السيَّاب، حاوي… وفي الأخيرين أقول: تعددت الأسباب والموت واحد.
وببالي الآن: توماس مور، عمر المختار، مارتن كنغ، غندي، شويتزر، الأم تريزا، هارلم ستريت، أولوف بالمه.
ببالي القديس العظيم “دولاسال” مؤسس مدارس الفرير في العالم سنة 1680 .
لماذا العالم يطرح اليوم “الأوتانازيا” الاقتصادية؟
أجمل قانون في تاريخ لبنان: غسل الكلية مجاناً!
وأوسخ قانون المادة 29: تشريد عيال المعلمين مجاناً .

ويا سيدي الرئيس،
أنا لست في حالة من الهذيان الشعري السوريالي، إنما عقل أرسطو، يُملي عليّ فأكتب.
أطفال “عرسال” الخمسة الذين قتلهم الخانوق سنة 1981، من يحاكم باسمهم الخانوق ودولة الخانوق؟
ولو مات طفل واحد، في بريطانيا العظمى، بسبب إهمال الدولة العناية، لأطاحوا حكومة المرأة الحديد.
لست أهذي، إنما أملك قواي العقلية جميعاً، وثق، يا سيدي القاضي، ثق أنه، من كل الأشعار والأسماء المذكورة سابقاً يتكون موقف الشاعر:
الإنسان + العنفوان!
ولن تدرك محكمتكم الموقرة قصيدة “المعلم الأجير” إلا في ضوء كل ما تقدم.
شكراً لرحابة صدركم، وشكراً لكم، أعطيتموني حق الكلام.
وفي رحاب قصر العدل، نقول الحق، كل الحق. نتهيب،لا نخاف!
* * *
سيدي القاضي،
هذا البيت من الشعر الذي قلته، من سنين، يضوِّي على القضية كلِّها:
أنا لا أنامُ، وقربَ بيتيَ، بائسٌ
مأساتهُ، خبزُ الحيـــاةِ، ودارُ
والأهم أني التزمته في حياتي كلها.
وقلت من قبل، في مطالعتي، إن شعاري، في عملي النقابي، هو رفضُ سعد زغلول الانحناءَ أمام الملك كي لا ينحنيَ معه خمسة وعشرون مليوناً من المصريين. من هنا، نعم من هنا فقط، الدخول على عالم القصيدة التي يحاكمني عليها النقيب شعبان، والتي تسببت بصرفي من الخدمة، وجعل بيتي محمولاً على كتفي. ولا نُهمُّ أيضاً.

أمَّا لماذا كتبت ” المعلم الأجير”.
فلأنه كان يجب أن أكتبها.
Je le ferais encore si j’avais à le faire
نعم سأكتبها، وأنا في قلب المحكمة اليوم، وغداً، لأن المعلم أجير في معظم المدارس بالمعنى التحقيري الوسخ لكلمة “أجير” في بلادي. ولأني نقيب للمعلمين أي المسؤول قبل أي شيء عن كرامتهم. ولأن قلمي حرٌّ قرارُه،وفمي!
أجل يا سيدي القاضي،كلمة “أجير” وسخها الاستعمال اللبناني، كما وسخوا الكلمة التي تطلق على إخواني، ماسحي الأحذية، ومنظفي الشوارع قلت لم تعد فصيحة فصارت تعني غير ما وضعت له أصلاً”. بينما كلمة أجير في اللغة الفرنسية، والإنجليزية على الأقل،لا تستعمل«péjorativement ».
ونعم يا سيدي، في معظم المدارس على مساحة الجمهورية اللبنانية المعروفة مني واحدة واحدة،من عيترون إلى القبيات،وفي المحافظات الست تقول إن المعلم أجير:
يأكلون حقوقه القانونية.
يمنعون المعلمة الزواج بسلاح الصرف من الخدمة، يمنعونها الحب، والزواج، وإنجاب الأولاد، وتوسيخ يدها بالطبشور، معلمةً أولادَها، كما تعلم أولاد الناس.
مأساة آلاف من زميلاتي اللواتي فاتهن قطار الزواج.
شرعة حقوق الإنسان!
حرية الإنسان في لبنان!
من قال شعبُكَ حرٌّ قلت: مهزلةٌ
كانت تُقصُّ على طفلٍ إذا لعبا
ويا عشرة آلاف معلمة في بلادي
يا أغنية الرصيف الحزينة
وأغنية تشرين الحزينة
يا حلم الطبشورة البيضاء خنقوه على اللوح الأسود
صلبوه على اللوح الأسود
يا حكاية الحب الذي منعوه عليكنَّ باسم قانون بلادي أهديكن جميعاً،أهديكن مع محبتي أغنية Céline:
Tu as tu as toujours de beaux yeux
ويمنعون، يا سيدي القاضي، المعلمة أن تحبل، وتلد، ويوقع على ذلك الزوج قبل الزوجة!
يمنعون المعلم الانتساب إلى النقابة.
ويمنعونه أن يمرض، أجل المرض ممنوع على معشر المعلمين!
يصرفونه بغير سبب، وبلا تعويض، وبلا غد.
وإذا تأخر 5 دقائق عن المدرسة، يطردونه خارج المدرسة، قصاصاً له أمام تلاميذه أنفسهم.
* * *
هذه حقائق يا سيدي القاضي، كلها ببالي الساعة، عشتها واحدة واحدة، منذ ربع قرن، تماماً كمسؤول نقابي، وهل السكوت عنها جائز؟
أنا لا أستطيع أن أسكت عن هذه الأشياء وعن وغيرها.
لأني نقيب المعلمين،أنا أدافع عن كرامة المعلم الساكت على مضض، فهو ليس نقيباً، وليست له حصانته وليست له مسؤولية الجماعة.
والمعلم اللبناني على العموم صيروه جباناً باسم الخبز والدواء. والمعلم الجبان لا يعلم أولادك الحرية،يا حضرة الرئيس!
قلت:أولاد لبنان. وهنا الخطر الأكبر!

أنا كتبت “المعلم الأجير” ثائراً لكرامة المعلم السليب، وتصويباً للمعادلة التربوية.
ولأن معظم أصحاب المدارس يصعِّرون خدودهم، وهذي القصيدة تمشي إليهم تعاتبهم. كتبتها لأن صوتي نقيباً هو صوت المعلمين كلهم. من هذه المسؤولية كتبتها.
وسأكتبها، وأنا خارج من محكمتكم الموقرة.
وأكتبها اليوم، وأكتبها غداً، لأن نقيب المعلمين الواقف أمامكم متهيباً غير خائف،والمشتغل بالعمل النقابي المجاني النظيف منذ 25 سنة كاملة، قلمه، حرٌّ قراره، وفمه .
وهنا مشكلتهم معه ، وهنا مؤامرتهم عليه، وعلى عائلته، وعلى النقابة التي له شرف رئاستها!
عندما كتبت هذه القصيدة، كنت أمارس حقي كاملاً، رافضاً الوصاية على حرية قراري. جربوا أن يعملوني من سنين عدو النظام فما صدَّقهم الناس.
وجربوا من زمان أن يعملوني عدو لبنان فما صدَّقهم لبنان. وجربوا… ولم يبقَ أمامهم سوى المؤامرة التي لم تنتهِ بعد فصولها. وكان ردي عليهم من زمان:
قالوا: نظامُكَ، قلنا: نحنُ فتيتُه
الرافعونَ لهُ في صدرِنا القببا
لكنْ نريدُه إنساناً نلوذُ بهِ
لا الذئبَ يفتكُ في أبنائه النُجُبا
في القصيدة مدير صعلوك، ومعلم رافض النوم، على بابه، طمعاً بالمال الذليل قائلاً له:
قدمي على المال الذليل!
والمدير هذا رمز لمدير اخترعه الشاعر ساكباً فيه معايب من طائفة،من المديرين الذين مروا في حياته النقابية.
وصوت الشاعر الرافض أن يكون أجيراً إن هو إلا صوت النقيب الذي يمثل كل صوت مسحوق، غير جريء، لأنه ليس نقيباً للمعلمين.
أهي الحصانة النقابية؟
أهي الحرية النقابية؟
أهي القضية النقابية؟
أهو عنفوان الشاعر النقابي؟
هي أولاً وأخيراً قضية نقابية،يا حضرة النقيب شعبان.
إذن، لا مدير معيناً، لا معلم معيناً، لا مدرسة معينة، وتحديداً لا مدير الفرير، ولست متلطياً وراء الكلمات.
وأكثر من ذلك أنا لا أسمح بأن يدَّعي أي مدير في لبنان احتكارَ القصيدة.
ويا حضرة القاضي،
وشهادة للحق، أثبتها هنا، كما أثبتها في الصحف، في غير مناسبة، قبل الصرف المؤامرة، إن مدارس الفرير لا تمنع المعلمة الزواج، ولا كانت تأكل حقوق المعلمين، ولا هي كانت تتدخل في العمل النقابي، ومنها انطلقنا لتأسيس نقابة للمعلمين حرة، ولا عرفتها تصرف المعلمين، صرفت النقيب السبعلاني لأن قراراً أملته الأيادي التربوية النافذة على بعض المسؤولين عنها،فكتب ووقع.
وبعض المسؤولين ليس كل المسؤولين.

ويا حضرة النقيب شعبان، لو كان التصفيق مرغوباً فيه، في المحكمة، لصفقت لك طويلاً، آن رحت تمتدح مدارس الفرير،لأني إلى هذه العائلة الكريمة أنا أنتسب، إلى الأصول فيها، إلى الينابيع. وإذا مررت بالفرير جوزيف، أو الفريرأندريه، أو الفرير غبريال، أساتذتي القدامى، فرجاءً أنقل إليهم عني معانقة التقدير والشوق والحنين!
يقول النقيب شعبان: اني وصفت المدرسة بالمعمل الكبير.
نقول: مدرستي التي صرفتني بقلم مديرها المعلم المنتسب إلى النقابة،وإلى صندوق التعويضات، والأمر مدهش حقاً، مدرستي هذه وصفتها بأجمل تجمع تربوي في الشرق.
مدرستي هذه وصفتها بالباخرة العملاقة “Titanic”…
ومن فرط حبي لمدرستي، بيتي، باخرتي العملاقة أنا أبديت الاقتراحات التي طلبها المدير مني. أبديتها في سرية تامة، وما ذنبي إذا جاوبت بصراحة ترضي ضميري حسب اعتقادي. وبين مصلحة المؤسسة، التي هي ملك للمنطقة كلها، ومصلحة أي مدير كان فأنا حكماً إلى جانب المؤسسة ولا أتحفظ.
من يحاكم الأدباء يا سيدي الرئيس؟
وبعد “المعلم الأجير” كتبت:
يستأذنُ الشادي قوانينَ الهوى
أيخالفُ القانونَ طيرٌ شادِ
تلكَ القصيدةُ، من يحرِّم نشرَها
الشعرُ أنكَ منبرُ الأسيــــادِ
ما زالَ يهدرُ صوتُها في خاطري
وعلى الأناملِ بَصْمتي وَمدادي
ونعم بصمتي، ونعم مدادي.
ونعم “المعلم الأجير” قصيدتي، ابنتي الشرعية، سجلتها في دائرة النفوس على اسمي، وعند مختار الضيعة. وهي صوتي، وأصابعي العشر ممدودة، نقيباً للمعلمين،في وجه المتطاولين على كرامة المعلم.
وكتبت أيضاً:
ألمانعونَ قصائدي هلْ أمَّمُوا الضوءَ السَّخيَّا؟
والنظام اللبناني ليس مع تأميم شبر من الأرض اليباب. فهل يريدون تأميم الحرية؟ ومصادرة الأقلام وتكسيرها؟
ولنا أصابعُ خليل مطران تحفر كلمة الحرية على الصخر الأصم، ولنا أسنانه…
من يحاكم الشعراء؟
أهي المحاكم العادية؟
أهم الشعراء أنفسهم؟
أم ممنوع يا سيدي، محاكمة الشعراء؟
واسمحوا لي قبل إصدار حكمكم العادل،أن أخاطب الفيحاء بآخر أشعاري، وشكراً لكم.
مَن قارئٌ عَنِّي، إليكِ خطابي؟
أَخشى أَغصُّ على حنينِ رَبابِ
إني أحنُّ، وفي ضُلوعيَ، غُصَّةٌ
وعلى الشِّفاهِ ، تمتماتُ كتابي
كحنينِ طلاَّبٍ إلى أستاذهم
وحنينِ أستاذٍ إلى طلاَّبِ
فَيْحاءُ، جئتك حاملاً قلبي معي
كَمُسافرٍ، من بعدِ، طولِ غياب
أهلوكِ أهلي، والمسافةُ بيننا
مشوارُ عصفورٍ، وظلُّ هضابِ
يا سيدي القاضي، إليكَ وظيفتي
دَعْني أعشْ، في غابةِ الحطَّابِ!
***
(*) ألقصيدة التي تسببت بصرف النقيب السبعلاني من الخدمة فكانت المحاكمة الأطول في المحاكم المدنية(17عاماً) والتي تطوع فيها 70 محامياً دفاعاً عن الشاعر وعن حرية التعبير!