متل الليرة الذهب

د. جان عبدالله توما

كان الكتاب يومها ليرة من ذهب. صفحة غلافه الخلفية تحفّزك ، كما غلافه، للإبحار على متنه. يومها كنا نتجوّل كالعصافير بين كتاب وآخر في تلك المكتبات المتهالكة. نقلّب الكتاب تلو الكتاب كأننا في أرجوحة الأبجديات. كنّا نقرأ التعريف عنه على الغلاف الخلفي فيما نتأمل غلافه الأمامي، فإن مسّنا خيال أو شيء من ذاك المجهول اشترينا النسخة وأودعناها العينين لتتسرّب إلى العقل لتصير أفكارًا مجنّحة.

اليوم غاب الكتاب وتهالكت المكتبات. تقف لك الشاشة الملوّنة بالمرصاد. (Zolpidem Online) كلّ صاحب سُبّابةٍ صار الكاتب والناشر والموزّع. صارت سُبَّابته فمه الناطق رسمًا بالكلمات تعبيرًا راقيا أو “سبًّا” وشتمًا وما شابه.

أين راح هذا الرقيّ في كتاب الذهب بغلافيه الأمامي والخلفي؟ كيف تحوًل كلام الغلاف الأخير إلى اكتفاء بدل اشتهاء؟صار من يتهجأ ما كتب على الغلاف الأخير مدّعيا بأنّه قرأ الكتاب ووقف على مقاصد الكاتب، وصار له ندًّا في التصحيح والنقد والتصويب.

هذا انسحب على ما يرد على صفحات التواصل الاجتماعي من اختصار لأفكار ومضامين كتاب، فيكتفي القارىء بلقمة ثقافية لا تسمن ولا تغني من جوع، كمتوجّع يتلقّى كيس مصل صغير في غرفة طوارىء مستشفى لعدم توافر سرير.

تعلّمنا وعلّمنا أنّ نصّ الكاتب يخرج من يديه وخياله ولا يعود. يصبح ملك القارىء. يصير النّص والقارىء واحدًا. يغيب الكاتب لأنّ نصّه صيّره في تلافيف القارىء. في كلّ قارىء شيءٌ من المؤلف.لذا متى راح الكاتب واحترقت كتبه يبقى حيًّا في أفئدة اكتشفَتْ نبضها في أبجديته كما عاش سيف الدولة في قولة المتنبي وليس في بطولاته.

غدًا ستنتفي رائحة الحبر وحرتقة الأوراق، وسيهجر الكتاب رفوف المكتبات ليعلوها الغبار.

 أيّة أنامل آتية يجهّزها التربويون لتغازل جباه الصفحات الورقيّة؟ يتسابق المعنيون في التربية على وضع التقنية بين أيدي الأطفال. دعوا الاولاد يأتون إلى الورقة والقلم فإنّ لهم في الغد والآتي ملكوت سماوات التقنية. خلّوهم في قاعات الصفوف “يجعلكون” الورق، يشمّون رائحة الحبر، ففي بيوتهم وجيوبهم تقنيات العالم الكاسحة الماسحة، ولكن ماذا ينتفع الجيل إذا أسقط الورق الذي يحرّر أصابعه وراح إلى الشاشات التي يخرّ لها بكلّيته؟.

يبقى الكتاب ليرة الذهب كيفما قلّبته ولو طَغَتْ التكنولوجيا وَبَغَتْ وَتَجَبَّرَتْ وَتَكَبَّرَتْ.