وفيق غريزي… شاعر الأغوار والقمم

Views: 269

الناقد د. جان نعوم طنوس 

يكون الشعر هبوطا الى الاعماق أو ارتفاعا الى مطلق جديد مشتق من ذات ثرية تصبو الى ابعد الأبعاد. في الحالة الأولى قد يكتشف المبدع عالما نسمّيه عالم ما قبل التشكّل الانساني، حيث تحتشد الميول والنزعات المرفوضة. وفي الحالة الثانية تسمو على الشرط الانساني، بتعال على المصير، ومن ثم حنين غريب الى عالم يسوده الطهر والنقاء. ولعل الشاعر وفيق غريزي يمثل هاتين الحالتين مجتمعتين اجتماع الماء والنار، فما أن يغوص في الأسافل، كما فعل الشاعر الفرنسي شارل بودلير وسواه، حتى يرتفع الى قمم مشرفة على وضعنا المأسوي، حين تستحيل الأرض مسلخا في زمن الحروب، وبؤرة فساد في اويقات السلم. 

وقد آل غريزي على نفسه أن يستقصي حالات النفس، ويستفتي دقائقها وخلجاتها، لأن النفس هي كالمختبر بالنسبة الى الشاعر، حتى أن مباشرة العالم تنطلق منها، فتتلون الروًية بأنواعها، الزاهية أو القاتمة، وما في الجبة إلا الانسان الطامح الى التخطي. وأين هو الانسان في عالمنا الموجوع؟  ما اصعب أن يكون المرء كائنا مفكرا، مرهفا، وسط اعاصير جنونية تنصب اللاعقل سيدا، والكراهية عرشا؟!

 

ها هو وفيق غريزي يصدر اعماله الشعرية الكاملة، في مجلّدها الرابع، مؤمنا أن الغزارة ولو تشابه بعض نتاجها، هي ما يضم وجهي الحياة المتناقضين:

الوجه الصبيح والوجه القبيح، المرارة الآكلة كدودة تنخر في ثمرة ناضجة، والفرح، وهو ربيب الحرية الداخلية. ولأنه من المحال تناول مجلّد ينيف على ستمئة صفحة، فقد اقتضى الأمر أن نختار من هذه الصفحات المبذورة بالأشواق وانواع الخيبات، بعض القصائد القليلة بغية تسليط الضوء على الكل المتكامل، مع الاقرار أن الجزء لا يفي المجموع حقه، كالأزهار القلائل لا تختصر ربيعا مقبلا سوف يفرش الأرض بالجمال. 

ففي قصيدة “جلجلة القيامة والترابيات” من ديوان “مدائن البوار”، يعود الشاعر غريزي الى مقولة الدم المسفوك الذي يخلص العالم من خطيئته :

” بدمائنا نروي جذور الغلال 

ايها العالم المكفّن بالضباب 

بخطى حثيثة 

نسير الى الزوال “.

فنحن نرى التضاد بين الدم والعالم الأعمى بتأثير الضباب المنتشر. غير أنه لا بد من معاناة سخيّة، ولعلها معاناة الشاعر التي تنقد التعهّر، كما يقول، كما تنقذ الميول الانتحارية عند البشر السائرين نحو موت عبثي. الشاعر اذن هو من يوقظ الحواس الروحية بعدما طفت الحواس المادية، فأصبحت هي المرجع والمعيار. 

من هنا يتغنى الشاعر وفيق غريزي بسحر كلماته الراحلة الى فضاء البهاءات. لقد اقبل الموسم، ونضجت الثمار، وحانت لحظة القطاف. فليقدّم ذاته قربانا على جلجلة العذاب، وذلك على تناقض تام مع من يسميهم كهّان العصر، وهؤلاء قد يمثلون مثقفي الكلمات الطنانة والفارغة، إضافة الى اولي الأمر المتلاعبين بمصائر الشعوب :

” ليس حقيقة ما نراه في المرآة 

عالمكم يا كهّان العصر بلا حراك 

حقولكم ارضها يباب 

عقولكم يلفّها الاغماء “.

وهنا يعود غريزي، المرة بعد المرة، الى بعض مقولات الشعر الحديث كالأرض اليباب، وتلك فكرة شاعت في الخمسينيّات والستينيّات. ثم يتطرق الى المسؤولين، صانعي الدماء بدلا من الورود :

” اولائك جعلوا من السماء شظايا 

تنبت في غابات الآثام والخطايا 

آه، يا سكنى الكهوف 

تنتظر قدومكم موائد الفناء.”

ويتبيّن لنا أن السماء، هي حياة الكائنات، تتحول عندهم الى شظايا، بمعنى تشويه الصورة الدينية الجميلة والسامية، كما تعيد الانسان الى سكنى كهوف التخلّف، حيث الفناء بدلا من البقاء. ولا يلبث أن يخاطب شاعرنا المجوس الثلاثة المتحلقين حول مغارة الطفل العجيب، ثم ينتقل الى كيمياء الحب، ويرى في حبيبته نجمة فوق بحر لا ينام، وكأنها العذراء مريم، منارة الأرض والسماء.

 

وفي قصيدة “من جراحي تنهمر الدماء” (ديوان “طائر الفينيق”) يؤكد الشاعر معنى التناقضات الثاوية في حضن واحد، وهو ما يشير الى أن الانسان مجموعة فصول مجتمعة، وتواصل بين الخطيئة والنعمة :

” انا الرائي والمرئي 

انا السهل الخصيب والجوار 

انا ضوء الليل وظلمة النهار “. 

إنه الرائي ونفسه هي المرآة العاكسة، وهي ايضا الخصب الروحي وجدار ا لعقبات، كما أنه ليل دامس ونهار مشرق. والحق أن النفس البشرية ليست شيئا بسيطا كالمادة، كخشب النجّار، أو حجارة البناء، انها النعيم والجحيم، ولعل الأمر يتطلب فارسا من ضوء يهبط الى الأغوار، ويصعد الى الأعالي، بغية الفوز بالوصول، وهذه الأخيرة تستحيل الى خواطر من ذهب. 

ولا غرابة أن يتماهى شاعرنا ايضا، بل دائما، بالسيد المسيح، مرددا بعض دلالات الشعر الحديث المنفتح على اخصب التجارب :

“من جراحي تنهمر الدماء 

بالبهاء تصنع ارض المدار”.

ثم يعود الى توكيد الأنا، ضد هذا العالم، مع ما في هذا التوكيد من غلو عاصف :

” احزاني عميقة الجذور 

ترفع يديها لتمسك الرجاء 

قصائدي محاكة من ابجدية السماء 

وانا لها المعنى والسماء “.

ذلك أن الحزن رحم لميلاد جديد، أما قصائده فهي كما يصوّره ويتصوره الصوفيون، من نسج السماء، وكأن غريزي ينصب نفسه سيدا على عرش نرجسية الابداع. ولذلك يزعم لذاته سلطة مطلقة، أو شبه مطلقة، ليدين المدينة العاصية :

” مدينة ليس لها قمح

ولا محار 

بل هي اكفان 

تحوّله يد الربان 

في ارحامها تختنق الاطيار 

وفي العالم الماوراء 

نعانق المطلق البهاء”.

واذا كانت المدينة مسجاة في اكفانها، على ما يقول، فان الذات المبدعة هي وحدها التي تعانق عالما في الماوراء أي مطلقا مناقضا لكل مدينة تخنق فيها اطيار البراءة، فتجف ينابيعها، ودائما يعلن لنا وفيق غريزي بيان البراءة: ليس في العالم إلا وسخ الحضارات، ولكنه، اي غريزي، من طينة اخرى نقية، ليرجم اذن المدن العاصية بنار اللعنة، في الوقت الذي يظهر نفسه اكثر براءة من دموع الثكالى؟  التعميم مضر، فثمة قصائد تغاير هذا المنحى، ولكن هناك صيحات كثيرة يبدو فيها شاعرنا نبيا من انبياء الشعر، ينفصل عن المجموع، منزّها عن آثام ملصقة بالغير. هي طريقة اتقنها شعراء مثل خليل حاوي وبدر شاكر السياب، وسواهم من الذين يقولون سدوم خاطئة فاسقة، غير أن براءة الشعر تعلو على هذا المستنقع اللعين.

أما قصيدة “ايامي تجتاز عتبة الخريف” من ديوان “الأوتار الراعشة” فنشيد من تعب الأيام والخشية من الغد المجهول. يقول مصلوبا بين اتجاهين متضاربين :

“مسكونا بالماضي الكئيب 

مخطوفا الى مستقبل مجهول 

لم تكتبه قدماي المتعبة “.

وهذا التأرجح بين الماضي والمستقبل انساني بامتياز، ومثله شيخوخة الروح الرازحة تحت وقر السنين :

” اجمع من بيادر الجسد النزيف

غابت الأصول والأشياء 

لم يبق في خزائني سوى الاصداء 

مترعة كاسي بخمرة الخيال.”

لقد تعب الجواد، جواد الجسد، وتعب الفرس، وهو وفيق غريزي نفسه، ولكنه عوّدنا أن ينتشل من كومة الرماد نارا مشتعلة، وأن يطلِع من شقوق الصخور وردة يانعة.

فاذا كانت الكهولة المفضية الى الشيخوخة حقيقة لا مراء فيها، فالحل السحري في تجربة الحب، لعلها الاكسير الذي يرد الشباب المولّي :

” قصيدتي انت، اقرأ عبرها سفر الوجود 

لتنحني القامات 

لتنحني الغابات والأشجار 

لتنحني الكواكب سيدة الخصب والأسرار

اركض نحو تخومها على الجدار 

والفجر طرقاته مجدبة “.

وهكذا نعثر على الانسان حيثما عثرنا على ما يستحقه، كما يقول الكاتب الفرنسي اندريه مالرو. فلا يستسلم غريزي قطرة، الا بعد مهادنة قصيرة، ليعود مستانفا الكفاح، معلنا سلطة الحب وسلطة الشعر، والاثنتان من مصدر واحد هو الذات المتألمة والمتعالية على جراحها، الصاعدة من الاغوار الى اعالي القمم. 

 

اشد ما اتمنى أن تخصص رسالة جامعية لتدرس شعر وفيق غريزي الحافل بعناصر وثنية ومسيحية في آن واحد. إن فيه مواقف حادة من اللعنة السوداء المنصبّة على المدينة الفاسقة. ورغم ما في النبرة من غلو فإنها تتضمن حقائق دامية نعيشها كل يوم، يضاف الى ذلك أن فيه تجارب من الحب بوصفها ربى مسحورة، تنقذ كـ “خيط اريان” من متاهات الذات السفلة.

على أن الصديق وفيق غريزي، وهو نعم المعلم البارع في تدريس اللغة العربية، فقد ارتكب اخطاء لغوية نظن انها فاتته في خضم اعداد هذا العمل الغزير. فقوله لتحني خطأً فاحش، والصواب أن الفعل المجزوم بلام الأمر، وهو ما يوجب حذف حرف العلة. صحيح أن الهفوات قليلة، ولكن المطلوب مراجعة ما يدفع الى المطبعة، من قبل الشاعر ومن مصحح آخر ايضا. ومهما يكن من أمر فإن الشعر الغريزي شجرة جذورها في الدم، أما اثمارها فهي، للعجب، مليئة بالحلاوات، فالمواهب، على عظمتها، منخورة بسوس داخلي، لعله من مصادر الابداع، لذلك ندعو شاعرنا أن يحتضن آلامه، وهي في معظمها آلام أمة ضائعة، فقد تنبت على صليب العذاب، كما يقول الفيلسوف الالماني هيغل، ورود التعزية، ونزيد ايضا ورود التخطي وتجاوز الضعف البشري…..

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *