كي أحلّق بعيدًا عنكَ

Views: 639

مصر- هدى حجاجي احمد

التهبت مشاعرها، فهي على مشارف السعادة الحقيقية. ألم يتقدم إليها رجل تتمناه أي فتاة. غني، منحدر من أسرة عريقة، يجيد عدة لغات.

وبالفعل تم الزواج كأفخم ما يكون، ومضى شهر العسل، وفجأة هبّت رياح أطاحت كل الأوراق الهزيلة. اكتشفت أن حماتها امرأة حديدية، لا تترك شاردة ولا واردة إلا رصدتها، ووجهتها إلى ما تريد.

الوقار تحول إلى صرامة وحدة في الطبع، ومرت شهور أقل عسلا، واكتملت جوانب الألوان الرمادية بالروتين اليومي! ثم عرفت- بالتدريج- متى يتكلم زوجها من نفسه، ومتى يتكلم بكلمات أمه.

قال لها يوما: أمي سيدة من الماضي تحلم بالأحفاد الذين يحملون اسم الأسرة، ويستمرون بلقب العائلة.

تجاهلت القول، ولكن العام مضى بعد العام، وبدأت تتحدث بصراحة: أريد رؤية أحفادي قبل أن أموت. مفهوم؟ أنت حتى الآن الزوجة الوحيدة لابني.

يرتبك الزوج. طوفان من الحمى يجتاحها. قال لها زوجها قبل النوم بتودد: فلنذهب الى طبيب متخصص.

اجتاحتها روح الغضب والتحدي. قالت: موافقة ولكن إذا قال إنك السبب، فهل أطلب منك الانفصال؟ وإذا جاء العيب مني، فهل تطلقني، أم تتزوج بأخرى، حتى تحصل على ذرية تسد بها عين الشمس، وتستمر الأمجاد؟.

لأول مرة تجري على شفتيها كلمة الطلاق. وقتها أدركت أن حماتها هزمتها، وأن حبيب الأمس مجرد دمية في يدي أمه.

في اليوم التالي ذهبا إلى عيادة الطبيب. السبب منها أو – بلغة حماتها- العيب منها، فهي عاقر.

قالها الطبيب بألف صيغة مؤدبة لا تجرح الشعور. لكنها لا تغير من الحقيقة.

وأمسكت الحماة بالفرصة، ونسيت أنها امرأة مثلها، وبلا مواراة قالت لابنها، وبصوت عالٍ:

– إذا كنت تحبها، فأبقِ عليها، وتزوج غيرها، وليس لها حق الاعتراض.

استسلم تماما كطفل العاشرة. هي لم تنم طوال الليل، وظلت بملابس الخروج! وقالت له «أنا ذاهبة إلى بيت أبي. فأرسل إلي ورقة الطلاق».

أصبحت مطلقة. جاء زمن الملل، لكنها لم تستسلم، واندمجت في العمل. تمرّنت في مكتب هندسي، واكتشفت طاقتها المعطلة. قال عنها الزملاء إنها مهندسة قديرة. وفي غمرة الأوراق والرسوم الهندسية والجلوس على طاولات مضاءة بالكشافات ومساطر حرف  “تي” (T) نسيت أنها امرأة جميلة.

ولكن هذا الصباح كان الجو صحوا. جلست في حديقة واسعة، وحولها أشجار ترتفع إلى ما لا نهاية. ورأت الأطفال يلعبون.

لمس هذا المنظر أعمق أعماقها، فارتعشت من الداخل. شاهدت امرأة ليست غريبة عليها. تذكرت ملامحها. تفرّست. تعارفا. هي زميلتها القديمة. هبّت رائحة الزمالة. أيام المذاكرة والأحلام. دنيا أكثر براءة قبل أيام الخبرة والحزن. راحت المرأة الأخرى تشكو لها متاعب الأولاد، وأنها لسوء الحظ تنجب توائم. تقول عندي المريض والمهمل في واجباته المدرسية والمراهق العنيف المفتعل للمشاكل. أولادي امتصوا شبابي. وزوجي يراني شغالة. توقفت عن دراساتي العليا، ومنذ تخرجي لم أقرأ كتابا واحدا.

وفي آخر الأمر انتبهت لتدفقها. سألتها: «وأنت.. كيف حالك؟».

قالت: «الحمد الله. تزوجت، وطلقت لعدم الإنجاب. وأعيش مع العمل وللعمل».

شعرت المرأة الأخرى بالخجل، كأنها انزلقت على قشرة موز. عقبت بكلام محايد: «الحياة لا تريح أحدا». شعرت بسخافة كلماتها، فانصرفت. عندي مشاغل. بعد إذنك، فالأولاد يسحلونني، أتمنى أن أراك قريبا أو أسمع صوتك في التليفون.

انطلقت بعيدا، ومعها الصغار. عادت المرأة إلى وحدتها. نهضت لتمشي. تأملت بعض العصافير الرشيقة. وتمنت من أعماقها لو كان ممكنا أن تنضم لفصيلة الطيور، كي تُحلّق إلى بعيد.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *