فناجين الدموع!!
سوريا- د. بسام الخالد
في منتصف الثمانينيات وبعد الغزو “الإسرائيلي” للبنان الذي خلف صوراً إرهابية صهيونية لا يمكن أن تُمحى من الذاكرة، كنت وصديق لبناني، من قرية “القرعون” في البقاع الغربي، ندرس في معهد الصحافة الدولي في بودابست – المجر، وبحكم العلاقة بين بلدينا الشقيقين وثّقت الغربة أواصر الصداقة أكثر، وامتدت لتشمل الأوضاع الأسرية لكلينا، إضافة إلى الهمّ العام والقضية الواحدة، قضية الوطن والأمة .. قضية فلسطين.
حكى لي هذا الصديق عن احتلال “إسرائيل” للعديد من البلدات والقرى اللبنانية وعن حملة الاعتقالات التي كانت تتم بالجملة للشباب اللبناني، ومنها شقيقان له أسَرَتهما القوات الإسرائيلية، وكيف ترك هذا الجرح أثراً عميقاً في نفس والدته المسنّة. وفي أحد الصباحات المشمسة توجهت وصديقي لاستقبال زميل يمني من مجموعة الدارسين، وعند العودة من المطار توقفنا فوق جسر على نهر الدانوب يصل بين شطري العاصمة المجرية “بودا- بشت” حيث كان منظر النهر خلاباً، وهو يستقبل أشعة الشمس ويعكسها خيوطاً ذهبية على صفحة الماء، وأمام هذا المنظر الرائع أدرت آلة التسجيل الصحhفية الخاصة بي فصدح صوت “فيروز” المخملي: ” بكوخنا يَبْني .. بهالكوخ الفقير.. والتلج ما خلّى ولا عودة حطب.. والريح عم يصفر فوق منّو صفير.. وتخزّق بهالليل منجيرة قصب”.
ونقلتنا هذه العبارات مباشرة إلى الوطن.. بمدنه وقراه، وتذّكر كل منّا ملاعب طفولته وأهله وأصدقاءه، لدرجة أن العديد منّا انزوى ليعيش هذه الحالة على طريقته، إلا صديقي اللبناني، فقد أجهش بالبكاء بشكل مؤثر! اقتربت منه مهدئاً وطيّبت خاطره، وأنا أعرف حقيقة مشاعره، وعندما هدأ قال لي: “هل تعلم ما تفعله والدتي في هذه اللحظة؟!.. فاجأني السؤال.. وقبل أن أجد إجابة مقنعة أردف قائلاً: والدتي الآن تجلس على ضفة بحيرة “القرعون” وتضع “صينية” فيها أربعة فناجين قهوة.. تسكب فنجانين لشقيقيّ الأسيرين في “إسرائيل” وتسكب فنجاناً ثالثاً لي.. أما الفنجان الرابع فتملؤه بالدموع..
أمام هذه الصورة المؤثرة لم أتمالك نفسي وفاضت عيناي بالدموع!
اليوم أعيد هذه الصورة إلى ساحة الذاكرة وأتساءل وأنا أشهد ما يجري في وطني: من يواسي الأمهات الثكالى اللواتي فقدن فلذات أكبادهن وأزواجهن وأغلى ما يملكن تحت سمع وبصر العالم الذي يدّعي الحرية ويحارب الإرهاب باسمها؟! اليوم.. أشعر بنزف الكرامة وعمق الجرح أمام ما يحدث.. فالدم العربي يهدر ويراق مجاناً فوق التراب العربي، و”إسرائيل” تغمس “فطيرها” وتزيد حجم ” كعكتها” على حساب هذا الدم المسفوح. (plu68.com) دموع الأمهات ستبقى تتهاطل لتشكل بحيرة دماء، وإذا لم نجففها فسنحتاج إلى ملايين الفناجين!!