رمضان عن بُعْد
د.جورج طراد
قد لا يكون التعليم عن بُعْد، رغم فوائده الكثيرة، موازيا من حيث الفعاليّة وحرارة الإتصال الإنساني، للتعليم المباشر. لكنه يبقى قادرا على التعويض عن نقصٍ ما وعلى إبقاء الذهن متوقّدا ومستعدّا للإستيعاب والتحليل. هكذا، مع الفوارق الروحيّة والفكريّة بالتأكيد، هو حال رمضان عن بُعْد، حيث نعيش تجربة التصفّي فكريّا فنتسامى روحيّا، من خلال التذكّر واستعادة المشاهد التي تبقى محفورة في البال تزداد رسوخا على مرّ السنوات.
هكذا هي حالتي هذه السنة مع شهر رمضان المبارك في ربوع الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان. فللمرّة الأولى، منذ ثلاثين سنة على التوالي، ومنذ أيام والده المغفور له بإذن الله الشيخ مبارك بن محمد، أنقطعُ عن المشاركة لبضعة أيام في روحانيّة الشهر الفضيل في قصر الشيخ نهيان. وطوال تلك السنوات، غالبا ما كنت في ضيافته عندما تحين ليلة القدر التي هي أفضل من ألف شهر. لكن الأمور اختلفت قسْريّا هذه السنة. لذلك فإنّ استحضار المشاهد المتسامية يبقى العزاء الوحيد في زمن الجائحة والكمّامات والتباعد الاجتماعي الذيلا بدّ من أن يُستَعاض عنه بالتقارب الروحي المريح.
فالمئات من محبي الشيخ نهيان بن مبارك، وهم من كل الدول والاتجاهات والمشارب، يحافظون على وفائهم له ويقصدون قصره العامر في هذا الشهر الفضيل ويحرصون على مشاركته في طقوس الإفطار والخيمة الرمضانيّة والسحور. قبيْل الإفطار، يبدأون بالتوافد بحيث أن حشود السيارات في حديقة القصر تشهد على محبة الزوار لسيّد المكان. والشيخ نهيان يستقبل ضيوفه بابتسامة مُحِبّة صافية وبترحيب عربيّ أصيل. (paradiseweddingchapel) يناديهم بأسمائهم ويستفهم عن أوضاعهم وعن عيالهم، هو الذي يعرفهم فردا فردا ويعرف أنهم أوفياء لصداقته، لذلك هو يبادلهم الشعور نفسه. بعضهم من المواطنين أو المقيمين في الدولة، وبعضهم الآخر جاء من القارات جميعا كي لا يفوِّت على نفسه متعة المشاركة في روحانيّة الشهر المبارك بضيافة الشيخ نهيان.
على مائدة الإفطار المترامية الأطراف يجلسون حول سيّد القصر الذي يحرص على إعطاء تعليماته لمساعديه كي يهتمّوا بالضيوف ويلبّوا طلباتهم فيشعر كل منهم بأنه بين أهله وناسه. حتى ولو تجاور على المائدة ضيفان لم يسبق لهما أن التقيا، فإن أجواء الإلفة التي يشيعها سيّد المكان في مجلسه سرعان ما تكسر الحواجز بينهما فلا ينتهي الإفطار إلا وقد تعارفا وأصبحا صديقيْن، لأن محبة الشيخ نهيان تجمعهما وتوحِّد بينهما.
وبعد الإفطار جلسة لارتشاف القهوة والشاي وبعض العصائر الطبيعيّة وِسْط تجاذب لأطراف الحديث حول شؤون متنوّعة يشارك فيها الحاضرون مجموعات مجموعات. أما حين يأتي موعد صلاة التراويح فإن المرء يشعر وكأن أبواب السماء انفتحت لتتقبّل ابتهال المصلّين، وقد تصفّت نفوسهم والقلوب.
الحقيقة، ان مَن يتجوّل في حديقة القصر، أثناء صلاة التراويح، تتسامى نفسه إلى العلى وهو يسمع رجْع التسابيح والابتهالات يتردّد في جنبات المكان، ويدرك بما لا يرقى إليه الشك أن التقرّب من الله ، بصدق أكيد، ينقّي من كلّ ما يكون قد علق في النفس من خطايا وأخطاء تفرضها عليه طبيعة الحياة الحديثة والبالغة التعقيد، خصوصا في هذه الأزمنة الصعبة من البطالة والخوف والحاجة التي تعض بنابها كل الناس.
وبعد أن يخرج الشيخ نهيان من مسجد القصر محاطا بضيوفه، إثر انتهاء صلاة التراويح، يتحلقون جميعا في صالونات القصر حول سيّده حيث تدور عليهم الضيافة السخيّة، ثمّ يقومون أفرادا وجماعات يستأذنون الشيخ نهيان ويغادرون المكان وقد تطهّرت نفوسهم وتصفّت قلوبهم بفضل أجواء الشهر الكريم.
هذه الطقوسيّة اليوميّة الثابتة التي دأبتُ على المشاركة فيها طوال ثلاثين عاما، كما ذكرتُ، انقطعتْ هذه السنة بفعل الجائحة وإقفال المطارات والتباعد الاجتماعي وكل مندرجاته المتداخلة. لكن هذا لا يمنع من التأمل والتفكّر في ما قد تؤول إليه الأمور. على الأرجح، هناك إعادة صياغة شبه كاملة للعالم الحديث بسبب ذيول ” كورونا”. فالانهيارات كثيرة ومتشعّبة، اقتصاديا واجتماعيا ومعيشيا. فهل يمكن للعالم، إذا ما تجاوز ذيول الجائحة الكارثيّة العامة بمَنْ تبقّى- وبما تبقّى- أن يستأنف حياته السابقة وكأن شيئا لم يكن؟
أعتقد أن استلهام دروس شهر رمضان المبارك، ولو عن بُعْد، من شأنه أن يدفعنا في اتجاهات أخرى غير تلك التي سيطرت على العلاقات بين الدول والناس حتى الآن. فيباس الحياة الماديّة قتل في معظم النفوس حرارة الإيمان ودفء العلاقات الإنسانيّة والتكافل الذي أوصى به الله في كل الأديان، لاسيما في الأزمات. وما يعلِّمنا اياه الشهر الفضيل يساعد على محاصرة هذا اليباس وعلى استعادة الدفء في الإيمان والحرارة في العلاقات الإنسانيّة. والشيخ نهيان بن مبارك، ليس فقط في أيام الشهر الفضيل ولكن كذلك على مدارالسنة، هو انموذج حيّ على الجمع بين متطلبات الحياة الحديثة والحفاظ على الروحانيّة والعلاقات الإنسانيّة. وأعتقد أن التأمل، في ظلّ رمضان عن بُعْد هذه السنة، يجعلنا نؤمن بأن عالم ما بعد الجائحة يُفتَرَض أن يكون أكثر تطهرا وإنسانيّة ممّا كان..وإلا فلن يكون إلا أكثر عِرْضة لجائحة الأنانيّة واليباس.
*****
كان أحد فلاسفة الإغريق يحاضر في حلقة من تلاميذه ومريديه عندما داهمته قوة كبرى واقتادته إلى الحجْر بفعل مؤامرة ظالمة. بعد سنوات، خرج إلى الحريّة وعاد إلى حلقة المريدين نفسها ليبادرهم بالقول: نستأنف كلامنا من حيث كنّا قد توقفنا قبل سنوات… هكذا هو تجاوز المؤامرة وانتصر عليها…
ونحن، بدورنا، سننتصر على الجائحة وسنعود إلى ربوع الشيخ نهيان حيث نستأنف محبتنا له من حيث كنّا قد توقفنا، فيعود أصدقاؤه ومحبّوه الكثر ليلتقوا كما في كل رمضان ويتزوّدوا من محبته الغامرة ومن روحانيّة الشهر الفضيل بما يساعدهم على تعميق البُعد الإنساني في نفوسهم أكثر فأكثر.