125 عاماً على ولادة عمر الزعني (1895-1961)…شارع الشعب المتألم

Views: 1581

سليمان بختي

هذه السنة هي الذكرى الـ125 لولادة الشاعر والفنان عمر الزعني (1895 -1961) الذي ذاع صيته في مطلع القرن العشرين كشاعر شعبي انتقادي ساخر وعبّر بأشعاره عن صوت الناس وضميرهم. ولقب بـ”شاعر الشعب”، واستطاع أن يترجم وينقل الموقف الشعبي من السلطة والأحداث وتحولات الزمان والمكان والمجتمع. قال عنه أمين الريحاني “عمر الزعني ليس بمغني بل فيلسوف”. نستعيد تلك الظاهرة التي لم يعرف لبنان لها مثيلاً.

 

ولد عمر الزعني في رمل الظريف، حي البطريركية في بيروت عام 1895. والده الشيخ محمد الزعني، تاجر الحنطة. درس في مدرسة الشيخ أحمد عباس الأزهري ثم الكلية الإسلامية ونال شهادة البكالوريا عام 1913. أسس فرقة “المزيكا” في المدرسة ولفتت موهبته نظر الشيخ أحمد عباس الأزهري وكان من زملائه في الدراسة الشهيدين عمر حمد وعبد الغني العريسي. تخرج سنة 1941 من المدرسة الحربية في حمص وعيّن ضابطاً إدارياً في الجيش العثماني. ودخل بعد الحرب إلى جامعة القديس يوسف في بيروت وتخرّج منها محامياً عام 1920. وكان من رفاقه في اليسوعية الرئيس كميل شمعون والرئيس عبدالله اليافي. درّس الفرنسية في المدرسة الأزهرية ثم عيّن مديراً لها. كما درس اللغة الفرنسية في الكلية الأهلية لصاحبتها ماري كساب. وعمل أستاذاً في مدارس فلسطين. ثم افتتح مكتباً للمحاماة في شارع المعرض مع صديقه الأديب عمر فاخوري وأطلق عليه اسم مكتب العمرين. بدأ نشر الشعر باسم مستعار هو “حنين” وذلك بعد قيامه بدور حنين في مسرحية “جابر عثرات الكرام” للشيخ رائف الفاخوري 1923. وعرضت المسرحية في مسرح الكريستال في بيروت.

لبث حبّه لبيروت مختلفاً وفي قلبه زاوية مضيئة للمدينة وشوارعها وبيوتها وياسمينها. كان يريد لبيروت أن تبقى نقية، فكتب: “يا ضيعانك يا بيروت/ الجهال حاكمين/ والارذال عايمين/ والأنذال عايشين/ والأوادم عمّا تموت/ يا ضيعانك يا بيروت”. هذا الكلام عمره من بداية القرن الماضي فما عسانا نقول اليوم؟ ولما استبدّ به اليأس، كتب: “بيروت زهرة في غير أوانها/ بيروت ماحلاها وما حلا زمانها/ بيروت يا حينها ويا ضيعانها/ تدبل على امها وتموت بيروت”.

 

ولصدقه أحبه الناس وصدّقوه وصاروا يهتفون: قال الزعني، وأنشد الزعني، وغنّى عمر الزعني، وآه يا زعني.

تمتع الزعني بموهبة شعرية حقيقية وحسّ شعبي عميق وقدرة على نقل الواقع بصورة كاريكاتورية. إضافة إلى شخصيته المميزة وصدقيّته وحضوره وإتقانه للأداء الغنائي لشعره ولفن الالقاء إذ اعتاد أن يلقي قصيدته قبل تنغيمها ومرافقة الموسيقيين لها. وكان يستعين ببعض الإشارات والإيحاءات والايماءات. كأن يقول كلمة ويقصد عكسها كما في قصيدته في المفوض السامي الفرنسي الكونت ده مارتيل.

خاض الزعني صراعاً بلا هوادة مع الانتداب الفرنسي وأعوانه ولم يترك للصلح مطرحاً وتحدّى بشعره سلطات الانتداب ووجد بين الناس صدى لصوته فضيقوا عليه وهدّدوه واعتقلوه ولبث عند رسالته الوطنية، كتب: “ده مارتيل سبع الليل/ زاد الخير بإيامو/ زاد الوزن وطفح الكيل/ يحيا الكونت دي مارتيل”.

صفق الحضور وضحكوا لكلمة سبع الليل والتي تطلق لدى العامة على الجرذ. أوصل الوشاة الأمر إلى المفوض السامي وأبلغوه أن الزعني يصفه بأنه جرذ فغضب وهدّد وطلب ترجمة القصيدة. وعندما قرأها لم يجد فيها ما يمسّ به بل مدحاً لشخصه. وعبرت القصة على خير بفضل التورية وأسلوب الزعني المتفرّد.

 

كتب ضد الانتداب الفرنسي: “شفناكم فوق شفناكم تحت/ ما نابنا شي غير سوء البخت/ الهم بينحت فينا نحت/ بكره بتفرج وبعدها بتفرج/ متنا وعيوننا عم تتفرّج”.

ولما فرضت فرنسا التعامل بالفرنك الفرنسي بدلاً من الذهب وتدنّت قيمة العملة الوطنية، كتب الزعني: “حاسب يا فرانك الله يخليك/ ويرفع مقامك ويعليك/ ويهديك بقى على مين يهدّيك/ قبل ما نفلس يا شريك/ طفرانين عدمانين/ ارواحنا مربوطة فيك/ يا فرانك دخيلك حاسب/”. ما أشبه الأمس باليوم لو وضعنا محل الفرانك “الدولار”.

وتابع في قصيدة: “عرّم يا فرنك”: أنا رافع راية اوطاني/ أنا شاعر الشعب المتألم”.

شاعت أغنيته بين اللبنانيين فانتقمت منه السلطات الفرنسية بأن منعته من التقدم للانتخابات النهائية في الجامعة اليسوعية.

عام 1928 كتب أغنية مستلهمة من التراث البحري للمدينة بعنوان “بدنا بحرية يا ريس” وقد استلهمها الموسيقار محمد عبد الوهاب في أغنية لوديع الصافي بعنوان “عندك بحرية يا ريس”. أما أغنية الزعني فتقول: “بدنا بحرية يا ريس/ البحر كبير يا ريس/ بحرية حمير يا ريس/ فرحان كتير يا ريس/ لأنك ريس يا ريس/ ما في صابورة يا ريس/ ولا شابورة يا ريس/ بس قاعد صورة يا ريس/ وبالإسم ريس يا ريس”.

وكان رئيس البلاد يومذاك شارل دباس فأثار غضبه ونقله من وظيفته تأديباً من بيروت إلى البترون. لم يخف الزعني وقال كلمته الشهيرة “في بيروت باقون ولن نذهب إلى البترون”. ولم يهادن بل استقال من وظيفته وتفرع نهائياً لشعره وفنه وللشأن العام ولم ينل ذلك من موقفه الوطني وعزيمته الاصلاحية المستنيرة. وعلى اثر تلك القصيدة لقب بـ”شاعر الشعب” و”الثائر الحر” و”الأسطورة.,

اسمع ماذا كتب عمر الزعني عام 1928 تحت عنوان “البؤس” وقد تدهورت أوضاع البلاد تدهوراً مريعاً: “اللي جن/ واللي كفر/ واللي هاجر/ القلوب مليانة/ والجيوب فرغانه/ والنسوان هربانه/ والأطفال جوعانه/ والحكومة غرقانه/ بعيوب الليل”. الشعر الأصيل يعبر الزمن كأنه كتبها صباح اليوم وليس قبل 92 سنة.

 

خاض الزعني بشعره معركة الاستقلال وحثّ اللبنانيين على المطالبة باستقلالهم الوطني وكتب قصيدة “حيا الله المخلصين” ومنحه الرئيس بشاره الخوري لقب “شاعر الاستقلال”. وفي يوم جلاء القوات الفرنسية عن لبنان، كتب “يوم الجلا/ عنا جلا/ ليل البلى/ وفجر العلى/ صبحه انجلى/ يوم الجلا”. وكتب قصيدة عن لبنان: “لبنان محلا فيّاتك/ لبنان محلا ميّاتك/ لبنان محلا غاباتك/ كل شي في جبال بالمعمور/ غيرانه من أرزانك”. ونال عليها وسام الاستحقاق اللبناني من دولة الرئيس سامي الصلح. كل ذلك قربه من الرئيس بشارة الخوري الذي حرص على وجود الزعني معه في كل رحلاته ومبدياً دائماً إعجابه بشخصه وأغانيه. ولكن شاب عهد الرئيس الاستقلال الأول بعض اللغط حول الفساد فيه ورأس الفساد شقيقه الذي لقّب بالسلطان سليم. وعلى الرغم من صداقته للرئيس فقد انحاز الزعني للشعب المطالب بوقف الفساد وعدم التجديد. ولما سئل ذات مرة عن رأيه بالتجديد فقال: “روي عن والي تركي ظالم كان يسرق أموال الشعب وينتهك الحرمات ويجمع ليرات الذهب في ماسورة طويلة انه أراد تجديد ولايته فقال للشعب هذه الماسورة التي ملأتها ذهباً ينقصها حتى تمتلئ أربع قطع ذهبية فهل تجددون لي كي املأها أم تنتخبون واحداً يبدأ بماسورة جديدة من جيوبكم؟ فسارع الشعب إلى تجديد ولايته بدون تردد”. وأنشد الزعني قصيدته الشهيرة “جدد لو ولا تفزع/ خليه قاعد ومربع/ بيضل اسلم من غيره / واضمن للعهد وانفع/ بأمنيته ظفر/ ومدامته شبعت سفر/ والمحروس نال الوطر/ واخوانه شبعه بطر/ ما عاد في منهم خطر/ ما عاد الهم ولا مطمع/”.

طارت القصيدة على افواه الناس ولكنها أوصلته إلى السجن فقد زاد عليها اعداء الشيخ بشارة الخوري عبارات كثيرة ليست فيها مثل “من القنطاري لراس النبع/ يا زط سلم على بلع/” وغيرها. وزاد غضب الرئيس حين أنشدها الزعني غير مرة بحضور السفراء العرب فأمر بإحالة الزعني إلى القضاء بتهمة إهانة رئاسة الجمهورية وحكم بالسجن. دخل إلى سجن الرمل وبقي 40 يوماً وأًيب بداء السكري. وخرج بعفو خاص من الحكومة. أوجعت هذه الحادثة الزعني الذي لم يكن يتوقع من أول رئيس استقلالي تربطه به صداقة الاحترام أن يعامله بهذه القسوة. فردّ بقصيدة: “على أيام الانتداب/ عهد الظلم والإرهاب/ ما كنت خاف ولا هاب/ لا حكومة ولا نواب/ أما اليوم ألف حساب/ صرت أحسب للأذناب”.

لم يترك الزعني أمراً للانتقاد إلا وانتقده من السياسة إلى الاجتماع إلى الطبائع والعادات إلى الظواهر والتحولات الاجتماعية. كان ينتقد السلطة ويحضّ الناس: “الدنيا قايمة/ والشعب غافل/ راحت بلادكم/ ما حدا سائل/”. “أموالنا رايحة يا حرام/ متل الحمام يا حرام/ يللا احكموا يا أهل النظر/”.

كتب عام 1946 عن السياسة والسياسيين فقال: “السياسة ما إلها دين/ وتتمايل شمال يمين/ هي سرّ الكذابين/ هي روح الظالمين”. أما في الركض إلى الكرسي فقال: “الكرسي الكرسي يا حلاوة الكرسي/ يا ما اعز الكرسي/ قولوا معايا/ تفو على الكرسي”.

وماذا عن الوزارات التي تُشبه بعضها وبلا نتيجة؟ فقال: “يا صالحة/ مين الوزارة الصالحة/ الماسية قبل الصابحة/ والجاية متل البارحة/ والطبخة مُرّة ومالحة/ يا صالحة/” (1947).

وعندما سمع في العام 1932 أن هناك إمكانية لوجود النفط في لبنان فكتب: تي تي يا تيتم/ يدري مين يعيش/ يدري مين يضم/ بعد عشر سنين/ بيفتح باب الشوك/ بتعوم بالبنزين/ بتسبح بالبترول/ يدري مين يعيش/”.

 

إن قصيدته الشهيرة “لو كنت حصان” فكشفت موقفه من التعامل مع الإنسان في بلادنا وحب المال وطرائقه. “لو كنت حصان في بيت فرعون/ كان لي بانسيون عشرين كرسون/ ما كان بالكون متلي إنسان/ لو كنت حصان لو لو/ لو كنت حصان الشرقاوي والسقلاوي والدنكلاوي/ كنت بساوي ألف أم حصان/ من سوء حظي مخلوق إنسان/ في جبل لبنان ذليل مهان/ جوعان هفيان حافي عريان/ يا ريتني حصان/ هه ها ها/”.

وفي هذه القصيدة أدخل الموسيقى الغربية مع قهقهة بين اللوازم. 

وحتى القضاء لم يسلم منه فكتب في العام 1930 “عالهوب الهوب الهوب/ والقاضي لابس روب/ والحق اخد مجراه/ ما عاد في ظلم بنوب/”.

ظلّ عمر الزعني يشكو تغيّر الزمان فكتب: “اختلط الحابل بالنابل/ وتساوى العالم بالجاهل/ صعب كتير بقى تفرّق/ بين العالي والسافل”.

وانتقد الناس والمجتمع لأنهم لا يعرفون ماذا يريدون: “بدنا وبدنا وما بدنا/ ومش عارفين شو بدنا/ وما طالع شي بإيدنا/ بس اللي ما فينا ليه/ بدنا منو وتفو عليه”.

أو: “يا ريت في تلفونات/ بين الأرض والسماوات/ حتى نحكي حتى نشكي/ بركي بتخف الضربات”.

لبث يشكو حتى قالت عنه الأديبة مي زيادة “لولا شكواه لكان شاعر الزمن” فردّ عليها بقصيدة “غني يا زعني غني”/ برقص وماشي بجنازه/ غريب وسط البلد/ محروم لذات الدنيا/ وببلادي عايش ذليل”.

ولكن مع انهماكه في الوضع اللبناني فإن الزعني كانت له متابعة لما يجري في المنطقة وفلسطين. فكتب بعد وعد بلفور: “لو فرضنا المستحيل/ وصحت احلام إسرائيل/ وفازت الصهيونية/ كبّر عالانسانية/ وعالقرآن والإنجيل”.

وفي مؤامرة نكبة فلسطين كتب “كلهم صافيين النية/ ومن عشاق الحرية/ لما ضعفت تركيا/ عملوا لها عملية/ قطعوها بالسكين/ واحد سكن فلسطين/ وارض النفط والبنزين/ وواحد ببلادنا تربّع/”.

ولا يكتفي بالمتآمر ولكن كعادته ينتقد الداخل والأصدقاء ويصوّر حال الإخوان والاشقاء: “قلنا بالظاهر إخوان/ وبالباطن أشكال وألوان/ ناس أتراك وناس ألمان/ ناس انكليز وناس طليان/ ما إلنا غاية وقرار/ ريشة طايرة بالهوا”.

 

في عام 1925 زار عمر الزعني سورية لرؤية ما حصل في المناطق المنكوبة جرّاء العدوان الفرنسي وكتب: “كيف ما مشيت تبسّم الموت/ وحول الميدان والشاغور/ الجنان أصبح تبور والطقس جميل”.

في أوائل الخمسينات دعاه طلعت باشا حرب “أبو الاقتصاد المصري” إلى زيارة القاهرة وأقام حفلة على شرفه في حديقة الأزبكية غصّت برجال السياسة والصحافة والفن. وعلم عمر بوجود محمد عبد الوهاب فارتجل أبياتاً زجلية قال له فيها: “عبد الوهاب حرامي ايه حرامي” فاصفرّ لون عبد الوهاب، فتابع الزعني: “يا سالب عقل الناس/ ورامي في قلبي الوسواس/ يا بن الهرم يا بن الكرم/ مجدك أصيل بين الأمم/ عندك مليك عندك علم/ مش عيب تقول يا لوعتي يا شقايا/ امال أنا أقول ايه/ وأنا المحروم من كل ده/”.

وعندما انتصرت ثورة 1952 كتب عنها وعن جمال عبد الناصر كما كتب ضد العدوان الثلاثي محيياً بطل العروبة. زار العراق أيضاً بدعوة من رئيس الوزراء العراقي جميل المدفعي وكتب: “بغداد يا بلد الرشيد/ يا منارة المجد التليد/”. وأنشد قصيدة “قصر الزهور”.

ظلّ عمر الزعني متحفّراً للكتابة ومنتقداً العادات والتقاليد وكل ذلك بنفس اجتماعي واصلاحي. وكان يأنف من طريقة التعامل مع الفنانين في بلادنا. ويعمّم على زملائه بضرورة قبض المكافآت قبل الحفلة لأنه ذات مرة طالب بالأجرة فقالوا له “خليها لبكرا” فعاد إلى بيته مشياً على الأقدام. ولما سأله والده: “قبضت أجرك”. أجاب عمر: “قالوا لبكرا”. فأردف والده: “متى فاتت باتت”. فكتب الزعني وأنشد: متى باتت فاتت/ هيك أبي وصاني/ وهيك ستي قالت/”.

وكانت آخر مشاركة له في العام 1960 وقبل وفاته بسنة حين اختلف اللبنانيون على الانتخابات وكادوا ينقسموا. فصاح الزعني: “نص بنص نص بنص/ أفضل حلّة نمص بنص/ هيك بترضي كل الناس/ واللي بيحكي قل له هص”.

كيف كان يكتب عمر الزعني؟ أي نوع من الزجل؟ وأي لون من الغناء؟

كانت طريقته في النظم أن ينظم اغانيه بالجملة منها ما هو جاهز ومنها قيد التجهيز. وكان يحرص على الإطار الشعبي لقصيدته مستفيداً من تجربة الشيخ سيد درويش في استلهام البائعين والصنايعية والحرفيين فكان ينظم قصيدة مطلعها “يا توت الشام” وقد دفع لأحد البائعين “ريال مجيدي” لأنه ختم نداءه بجملة “الشفا على الله يا شامي”. أو “من أصلك عوجه يا عوجه” أو مثلاً شعبياً “اللي ضرب ضرب” أو “الما الو طبلة ما إلو عيد” أو “اختلط الحابل بالنابل” أو “في الهوا سوا” أو “عالهوب الهوب” وغيرها. وهكذا تنتشر اغانيه بسرعة ويسر وتدخل القلب لسلاستها وطرافتها ولكن في العمق كان النبض والموقف والالتزام.

 

كان يكتب أزجاله حسب الأوزان المعروفة في الزجل، ولكن كانت له اوزانه الخاصة على ما يقول الباحث جوزف أبي ضاهر ويضاف إليها أسلوبه وشخصيته وحضوره التواصلي الحار على المسرح. كان يؤدي المونولوغ مثل شعراء التروبادور يتعهدون الأغنية حتى تصل إلى الناس وتصبح اغنيتهم. أما الغناء والموسيقى فكانا على غير السائد. ووسط اللون المصري واللون البدوي والمديني كان الزعني يطمح إلى لون غنائي لبناني. أو لعله كان جسراً بين كل تلك المدارس والمدرسة اللبنانية في الموسيقى والغناء. أحبّ عمر الزعني بيروت حباً جماً ويروي المخرج الاذاعي محمد كريّم في كتابه “كما عرفتهم” (2015) انه التقى عمر الزعني في إذاعة الشرق الأدنى سأله: “أنت منين”؟ فأجابه كريّم: “من بيروت”. – “بيروتي اهلين”، قال. ويضيف كريّم: “كانت بيروت جواز دخول إلى قلب عمر الزعني وأمدّني بالنصائح الفنية والحياتية. قلبه كبير وحبّه للبنان كبير ولكن في زاوية قلبه ركن خاص لبيروت”.

كان عمر الزعني شاعراً وطنياً شعبياً اصلاحياً شجاعاً وجريئاً. هاجم الاستعمار والحكام والوزراء والنواب والسياسيين. والغريب، انهم كانوا غالباً يتقبّلون نقده الناعم حيناً والجارح غالباً. ومع ذلك ينجو من قبضتهم. والسبب أن وسيلته إلى كل ذلك السخرية والنقاء وكان إذ يوجه سهام نقده للحكام فلم يكن مرة شتاماً أو حاقداً أو مهيناً. ولذلك عمر الزعني سيعيش بعد في ذاكرة الناس لأنه كان صادقاً ولأنه كان معنا وسيبقى معنا على حدّ قول المخرج برهان علوية.

كان شاهداً مختلفاً على الوقائع والأحداث ومعبّراً عنها وفاعلاً ومؤثراً مع الحرية ضد الاحتلال ومع الاستقلال ضد الانتداب. ومع الصح ضد الغلط. وضد الذي يبيع صوته وضد الذي يشتريه وضد السمسار. وضد كل من يريد شراً بالبلد. لعلّ أنبل براءة تنزل على صدره أن الانتداب اضطهده وسجنه والعهد الاستقلالي اضطهده وسجنه لأنه كان مع الحق ومع الشعب ومع كرامته الشخصية وكرامته الوطنية.

كل هذه المسيرة الرائعة ولا طابع تذكاري بإسمه. ولا تمثال في شارع. صدر في العام 1983 كتاب “عمر زعني حكاية شعب” لفاروق الجمال. وجمعت قصائده في كتاب “عمر الزعني موليير الشرق” من إعداد سمير الزعني (2010). كما أصدر الفنان أحمد قعبور CD بعنوان “أحمد قعبور يغني عمر الزعني” في العام 2015.

ولا يسعنا إلا أن نختم بما قاله عنه عمر فاخوري، لو أن مؤرخاً بعد خمسين سنة حدثته نفسه باستشهاد أدبنا على زماننا أو بالتماس صورة لعصرنا في أدبنا لكان أكثر تعويله على ديوان شاعر الشعب عمر الزعني، هو إذا شاهد العصر وشاعر العصر”.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *