سجلوا عندكم

قراءة الأديب سليمان يوسف ابراهيم  لنصّ “الشمعة” للدكتور جميل الدويهي

Views: 341

سليمان يوسف ابراهيم

 

1- النصّ:

لماذا أهتمّ كثيراً إذا تركني أناس كنت أحبّهم ومضوا إلى البعيد؟

ولماذا أعتب إذا حملت شمعة لأضيء الطريق، والناس لم يحبّوا النور من يدي؟

لم أسأل مرّة واحدة شمعتي: لماذا تبكين؟ لأنّني أعرف أنّ النور يبكي دائماً على نفسه.

_____

هل رأيت كم أنّ هذه البئر عميقة؟

هذه البئر تشبهني… مرّ من هنا رعاة الجبال… وسمعت غناء الحصّادين. والسماء كانت أصغر منّي في الليل. أنا مرآة للنجوم. وكم رويت العطاش، ونسيت أنّ العطش ولد معي… ويموت معي!

_____

لا تتوقّف عن الغناء أيّها العصفور… فليس عدلاً أن تصمت الموسيقى… وهذه الجوقة الصغيرة من العازفين التي دعوتها إلى شبّاكي، سأغنّي معها ما حييت. ولو خسِرتُ هذه المدينه، أو سرقَني الغجر من أهلي… الأغنية تعيش أكثر من السكوت… وصمتي هو الأغنيه.

____

وأيّها السهل، سأنتظرك بضعة أيّام، حتّى يصير القمح أشقر، كما جدائل الصبيّه. لا تقل: إنّهم لن يعودوا… ولا تعطِ وأنت حزين، ففي آخر الصيف، تلتوي أعناق السنابل تحت أقدام العابرين، وتصير أنت صحراء… لكنّ الموت لا يبقى موتاً، والشتاء لا يبقى شتاء إلى الأبد.  الموت عكّازة الحياة. (https://brownshvac.net/)

____

غداً تصبح الشمعة عنواناً لكتاب. والذين تركونا سيدخلون في النسيان… وليس من رمح أعلى من شجرة السنديان، ولا سيف يقطع الريح التي تصرخ على الأبواب.

____

 

 

2- القراءة

للوهلة اﻷولى، ومذ واجهت عيناي نصّ “شمعتك” ﻷتلقّف جمع مشاهد أنوارها بالبصر والبصيرة معاً، أيقنتك تسكن رحاب مشاهدك بطلاً… وكم يوجع البطل وخز قتاد بطولة، كتبت عليه مسيرة ألم!… اﻷلم الذي بطُوب حجارته تُبنى صروح البقاء، وتشاد بيد صاحبها لأمد يطول.

في لوحاتك الخمس، أراك ساكناً بنور فكرك ونورانيّة بصيرتك… وإن تعدّدت أوجه الحضور بطولة، يبقى الجامع بينها، أنّ بطلها بكلّ ما أتى من مواقف، همّه كان ويبقى أن ينحر الظلمة عند أقدام الضوء؛ وإن انتحر الضوء – ضوء الحضور- على مدى عمر؛ لينير دروب إنسانيّة، وإن كانوا يمعنون إمساكاً بأهداب الظلمة، نكاية باعترافهم بعظمة تضحية النور موتاً على مذبح تقدمة المعرفة…

أرى الكاتب يقف موقف المتسائل تجاهلاً واستغراباً، غير منتظر على أيّ من تساؤلاته جواباً… وهو المهتمّ ﻷمر الذين قرّبهم، معتنياً بهم، ومن أجلهم، باذلاً كلّ جهد ونصح، فكان جزاؤه أن تركوه متخلّين غير مكترثين…كما أولئك الذين حمل إليهم بين اليدين شمعة مضاءة تعينهم على اجتياز درب السفر الطويل! هي روحه المشعّة بقبس من محبّة، وقمره النيّر بوهج من فكر متوقّد… فطاروا بعيدًا عنه، مولّينه ظهورهم، غير ذاكرين لما كانوا عليه وما أضحوا إليه. فبعد أن نبت تحت أجنحتهم زغب، ونما فيها ريش، ولّوا مدبرين… وبالرغم من أسى، لم يواجه هو العقوق من بينهم بقساوة أو بصلف؛ بل بقي مصرّاً على بثّ أهل دنياه من إشعاعات قبسه أنواراً؛ وهو اﻷديب والشاعر الموقن أنّ النور الذي لا يبكي مسيرة دربه لا ينير درباً ﻵخرين.

أجد الكاتب في المشهديّة الثانية من النصّ، وقد تقمّص دور البطولة في بئر ماء، بعمقها وسطحها صفحة مرآة: آناً هو النور وآونة يعكس النور… فهو يتواضع للناس كما صفحة الماء الساكنة تنبسط للنور أمام الرائي؛ ويعمق حضوره عمق بئر ليتعرّف بنفسه ويعرفهم بما اكتنزت روحه، ليتمكّن كذلك من التعرف إلى مكتوناتهم وسبر أغوارهم… فهو، مرآة إنسانيّة. وهو العارف دوره بينهم وما يصبو إليه من علاقته بهم… هو المروي ظمأهم إلى كلّ جديد وجميل، والراوي حكاياهم وفصول عيشهم معه. منهم من ارتوى وشكر، وآخرون ارتووا وشكوا، منكرين أسباب بسوق أغصانهم…. لكنّ الكاتب بطل المشهد موقن أنّ العطش يكون بنضوب حضوره إلى فكره تعطّشاً! أنرجسيّة المبدع هي؟ لست أدري… لكن ما يصل لديّ، أنني في حضرة مبدع؛ بالكلمة يصوّر أحوالاً ومشاهد تلصق على مرايا الذات، وتقيم بها طويلاً.

وألتقي الكاتب في ثالث المشاهد، وقد تمنطق بلبوس عصفور يبثّ اﻷرجاء شدواً وغناء، يفرح قلب الربّ وقلوب خلقه… وأغلب ظنّي أنّه يُظهر نفسه بدور العصفور؛ حيث يغدو تغريده هو النور الذي يطلقه من ذاته… فهو بما صار إليه؛ غدا ملك الطير، داعياً أجواق الطير إلى احتفاليّة موسيقاه ووليمة غنائه… منهم، من بات معلّماً وآخرون لا زالوا على فنون الغناء يتدرّجون. ويبقى المهمّ أنّ المعلّم المحبّ لطالبيه، قرّر أن يحيا معهم العمر، وإن عرّض نفسه لخسران حياته، سارقه الرحيل من بين أهله وناسه… خلاصة الغنى لروحه: أنّ ما خلفه وراءه من غمار غناء وشعر سيميت السكون ويقتل السكينة من حوله، بعد جلاء صوته عن مرسح هذه الفانية، ليحيا الصدى أشدّ وقعاً عند الناس، وأعمق رسوخاً في قراراتهم واﻷعماق… وهكذا لا تنقضي سيرة مبدع حقّ بانقضاء زمنه وجلاء حضوره عن هذه الفانية؛ لا بل هي لمع وإشعاعات تتلألأ من بعده مستصرخة اﻷجيال استحضاره بما ترك خلفه للإنسانية من لمح إبداع تحفظه من نسيان…

وينده الكاتب السهل؛ يسائله… والسهل في النصّ هو حقل عمره الذي حوّله بالكد والمجاهدة من أرض وعر وصخور شخاريب، إلى بستان لزراعة فكر وبثّ إبداعات يصلح! والمهمّ اللافت أنّه سعى مع فعَلته المدعوّين إلى حصاد أشقر اﻹبداعات… ففرحه يكمن بتحلّق المدعوّين إلى وليمة إبداع، بعد أن كان الكاتب قد حوّل الوعر، وعر الغربة، إلى حقول غنّاء تموج وتمور بعطاء المواسم، وكلّ زاده وعتاده لرحلته المغامرة إرادة صلبة قدّها من صلب جرود أرضه اﻷمّ إهدن، موئل حنانه وجمع عاطفته التي تعاوده ظلالها صبح مساء وإبّان كلّ غروب حنيناً يجيش بصدره قصائد وتلاحين… جرّاء هجرة وغربة قسريّتين… إنّ اﻷرض التي أودع صدرها بذور أحلامه شتاء؛ معلّلاً النفس أنّه سيستعيد ومَن عاونه الغرسَ مواسمَ من ذهب العطاء ربيعات تلو ربيعات… وصيفيّات نضوج أفعال وإرادات تلو صيفيّات. فكلّ ما تستقبله تربة يموت بذاراً ليحيا شتولاً وأنصاباً… فالبذور تتّكل على الشتاء لتنبت عند أبواب كلّ ربيع وتطرح المواسم عند أعتاب كلّ صيف…

ونصل إلى خامس مشهديّات الدكتور جميل ميلاد الدويهي التي أيقظها مترامية الحضور على مرسح اﻷدب الوجوديّ، بعودة إلى بدء، حيث نلقاه تلك الشمعة التي كانَها ولا زالها، أضاءها ذات حلم وما برح ممسكاً متشبّثاً بنورها، يبثّه على دروب اﻹنسانيّة؛ مشيراً إلى من أدبر عنه من المدعوّين إلى وليمة اﻹبداع، وهم سيدخلون حتماً عتمة غياهب النسيان، وقد أطفؤوا بعصف رفضهم وتقاعسهم عن متابعة شعلة من نور قدّمها لدروبهم… لأنّه ما من رمح أعظم بسوقاً من الشجرة التي انقطع عنها.

وكأنّي بالدويهي يعود شمعة، نورها يصرخ في وجوه أبناء الظلمة: أنتم، أيّها الراحلون إلى ديار الظلمة رافضين مسالك النور، سائرين إلى ديار فناء! ماذا ستتركون للحياة وأبنائها من بعدكم؟ وما الذي سيحدّث عنكم؟ أم إنّكم على مرسح أيامها قد جزتم من غير حسيس؟!

لقد عمَدت أيّها اﻷديب، في إضاءة شمعتك، إلى حقل معجميّ من الطبيعة استعرته، ومن رحابها استقيته، مستعينًا إلى ذلك بباقات من صفات الشعور اﻹنسانيّ، وقد عقلت مرابطه إلى بوتقة من الحواسّ، استعنت بها على حوك مشهديّاتك بما يخدم إيصال فكرك إلى القارئ بجمل رشيقة؛ يظنّ قارئها أنّها السهل، ليكتشف أنّها الممتنع في آن إلاّ على الذي تمرّس بركوب صهوات الكلام… فجاءت العبارات مكثّفة للمعاني؛ بحيث لا تحتمل زيادة ولا نقصاناً، فـ”أتت الكلمات أثواباً للمعاني” على قولة الجرجاني.

يا صديقي، لقد جعلتنا نطيل المقام في رحاب أدبك، حيث قصرت الكلام على المفيد… وفتحتَ الباب على مصراعيه ليدخل قارئك رحاب فكرك؛ لجني ما أنت تريد الذهاب إليه، وسع خياله وقدرته على صيد المعاني وصونها، محاولاً من جهتك أن تصلح ما أفسده الدهر.

أغادر روضك الغنّاء بنور الفكر ونوّار العبارات وشدو الحضور أنهاراً من نثر فنّيّ نردُ ورده لنبترد تأنّق عبارة، وحسن مقاصد كما دوماً؛ آملاً أن أكون قد حقّقت بعض إصابة لما شئت بشمعتك المضاءة بحبر نيّر، أن تسعى نحوه، وترمي إليه من درّ المعاني بحصيف قول إلى دقيق مقصد.

***

(*) ورد النص ضمن مشاركات الأسائذة والأكاديميين والأدباء في الجلسة الحواريّة حول كتاب د. جميل الدويهي الفكريّ “هكذا حدّثتني الروح”، تمهيداً لإصدار المجلّة الإلكترونيّة الخاصّة بوقائع الجلسة يوم 9 حزيران المقبل.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *