قراءة في لوحة “هجرة” لـ جوزيف أبي ضاهر
د. جوزاف ياغي الجميل
مهاجر تقوده الأمواج.
أوليس، أين شراعك الفضي يخترق العباب؟
أين الحوريات؟
أكاد أسمع غناءهنّ يموج بين الماءين: ماء البحر وماء السماء.
واللقاء بين الزرقتين دليل خصب وحياة.
زرقة الماء يخالطها البياض. بياض بشكل أسماك تنقل الزورق إلى عالم من الأحلام.
زرقة السماء تضيء السواد المسيطر في عمق إطار اللوحة، حيث عالم الظلمات.
الغيوم الزرقاء بشكل سمكة تحلّق في ليل حالك كالفراغ.
بين البحر والسماء يتهادى زورق أصفر. ويحمل اللون الأصفر مجموعة دلالات، فهو لون التفاؤل، والإيجابية،والإبداع. لون الثروة التي هاجر من أجلها المهاجر، في مركب تتقاذفه الأمواج والأحلام. ينطلق المهاجر نحو عالم فردوسيّ ، على أجنحة أسماك الحرية والانطلاق.
في وسط الزورق سارية كأنها صليب جلجلة يختفي خلفها، أو عليها، المهاجر الذي سحقته غربة الوطن فشاء الرحيل إلى أرض غريبة، ليس فيها صديق، أو حبيب.
سارية ليس فيها شراع، تتقاذفها أمواج الأخطار والوعود الآل.
وحين ننعم النظر في الزورق، يتراءى لنا كجني آت من ألف ليلة وليلة، يحمل المهاجر السندباديّ، في رحلة اللاعودة، إلى عالم الكنوز المرصودة.
ويتحول الموج إلى حوريات سبع. ورقم سبعة يدل على الكمال، والراحة، لأن الرب ارتاح في اليوم السابع، بعدما خلق الإنسان. والهجرة قد تكون سبيلا لراحة يبحث عنها المهاجر المثقل بالآلام وأوهام السعادة.
أوليس، هل كبّلتك الأحزان فاختفيت في مركب الضياع؟ وهل قادتك حورياتك إلى شهوة السماع مقيّدا إلى سارية الرحيل؟
أيتها الهجرة, ما أقسى فؤادك المغلّف بالسواد!
في لحظة ما، ستنتهي الغيمة الزرقاء. ولن يهطل المطر السيّابيّ. والأسماك ستغوص إلى الأعماق، ولن يبقى، في اللوحة الوجودية، إلا مهاجر تائه في الفراغ الأسود، حيث البكاء وصرير الأسنان.
جوزيف أبي ضاهر، أيها النبي الأبي، زرقتك المحيطة بالمهاجر تنقلنا عبر التراث العربي إلى زرقاء اليمامة تحذر قومها من الخطر المحدق. فلم يصدقوا، كمهاجرك، تحذير العرافة، إلى أن داهمهم مخاض السواد والموت وهم لا يفلتون.
أوليس، أيها المهاجر الأزلي، الأبدي، متى تصدق الوعود؟
متى تعود؟
بين زرقة الخارج وصفرة الذات عالم من تيه تمتاز به صحراء الماء.
بين حلم الغياب، ووهم الحضور، جدلية صراع غير متكافئ بين نفس وجسد. النفس بلون الغرق في الأزرق والجسد شاحب بلون امتداد الرمال بين واقع واحتمال.
جوزيف أبي ضاهر، لوحتك قصيدة سوريالية بامتياز، تجمع بين الرؤية والرؤيا. كأنك تقول لنا بلسان بطل لوحتك الغائب: إن كان لا بد من الهجرة، فلتكن هجرة إلى عالم الذات، حيث الثراء الحقيقي، والسعادة التي لا نهاية لها، ولا انقضاء.