الحياة لعبة شطرنجية يكثر فيها القتل والموت، قدرنا أن نعمل لأجل مواجهتها وكسرها
العميد الركن م. صلاح جانبين
بعيداً عن السياسة والسياسيين وسياساتهم التي لا تستند إلى قواعد علمية أو أسس واضحة يسيرون بها، أو يُسيَّرون فيها، حيث لا تَعرف أبيضهم من أسْوَدِهم، لا بل من تراه صديقاً اليوم، تراه غداَ ملوَّناً بألوان رمادية خصماً عنيداً، أو حتى يكون لونه كالغراب عدواً لدوداً. وفي ظلِّ التخبّط العام الذي نشهده من صراعات ونزاعات مريرة تكاد لا تخلو منها أي منطقة على وجه الكرة الأرضية، هدفها السيطرة على قدرات ومقدّرات الشعوب أينما وجدت بالقوة والجبروت والظلم والقهر وإفقار الشعوب وإذلالها بغياب شبه تام للحق والإنسانية والعدالة والقوانين والتشريعات الدولية إلاَّ ما ندر منها على ألسنة البعض وأحاديثهم المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي التي لا تُغني ولا تسمن من جوع.
لعبة الملوك والرؤساء
قارنت هذا المشهد الذي نعيشه بلعبةٍ محبّبة على قلبي أستمتع بها من فترة لأخرى لفهم الحياة أكثر فأكثر، تلك هي “لعبة الشطرنج”، اللعبة المربَّعة والمخطَّطة على شكل مربّعات ملوّنة، يتنقّل في ما بينها الجنود المقسَّمين بالتساوي بين الفريقين، أحدهما باللون الأبيض والآخر بالأسود للقتال والمبارزة، حيث يدافعون فيها عمّا هو أهم وأرفع منهم قدراً وقيمةً؛ أولئك الموجِّهون الذين يتمركزون في الخلف، كالملك وهو الأساس والهدف العام وإلى جانبه الملكة، ومعهما حاشية من القلاع والخيول والفيَلة، يُضحّون بأنفسهم لتنفيذ مآرب القادة من الملوك والوزراء.
تلك هي أوجه التشابه ما بين لعبة الملوك والرؤساء على أرض الواقع ولعبة الملوك والوزراء على تلك اللوحة الشطرنجية! نعم، دائماً الصغار يمجّدون الكبار، يدافعون عنهم ويضحّون بأنفسهم في سبيل إعلاء شأنهم!
نعم، تلك هي الحياة التي نخوضها بالفعل، على لوحة تكون بيضاء ناصعة، وفجأةً تتغيّر إلى اللون القاتم فالأسود وبظروف متبدّلة وعالم آخر مغاير!
قد تستطيع التحرّك كجندي أو كفرد من مربع إلى آخر، والطريق أمامك مفتوحة، لكن هناك من يحرِّكك ويستغلّك لمشيئته ومخطّطاتهمن دون أن تعلم، حتى بعلمك في كثير من الأحيان وليس بيدك أي حيلة للتخلّص أو المفرّ، إلى أن تجد نفسك محاصراً لا تستطيع الحراك مع علمك ويقينك بأنك تملك القوة اللازمة للتحرّك والمواجهة.
القانون والحكم سيّدا الموقف
تغيب القوانين والتشريعات في لعبة الحياة، وتسود فيها القوة والقهر والصخب والضجيج والفوضى العارمة، شعارها الديمقراطية والعدالة والإنسانية غير المطبّقة، من دون حسيب أو رقيب فعّال، بينما عكس ذلك تسير المعركة بين المتخاصمين على لوحة الشطرنج، حيث يسود الصمت والهدوء بين اللاعبين، وللحَكَم الكلمة الفصل عند الاختلاف فيما بينهم؛ يتقيّدون بالقوانين المكتوبة التي لا تُراعي أحداً على الإطلاق، كبيراً كان أم صغيراً، غنيّاً أم فقيراً، ذكراً أم أنثى، فالكلُّ سواسية أمام القانون.
قد تتعرّض في لعبة الشطرنج لأكثر الضربات الخطرة من أقرب قطع الخصم المحيطة بك حتى البعيدة عنك أيضاً، أما في لعبة الحياة فقد تأتيك الضربات من خصمك وهذا طبيعيّاً، ولكن أيضاً تأتيك من أقرب الناس إليك، نتيجةً للغدر والحقد والضغينة واللؤم والأنانية وحب الذات.
من المؤكّد في لعبة الشطرنج، أنك لا تخسر بسبب أخطاء الآخرين بل بسبب أخطائك وحدك، أنت الذي تُدير المعركة بعقلك وفكرك وخبرتك ومهارتك؛ بينما في لعبة الحياة، قد تخسر بسبب أخطائك وأخطاء المحيطين بك من المستشارين والمحلّلين المدّعين وغيرهم من المتربّصين الذين يضمرون لك الشرّ ويطمحون بالمناصب والمكاسب. وقد تخسر أيضاً لأنك خاضع لمن هو أكبر وأهم منك، لمن أراد بك السير في اتجاه مغاير للحق والحقيقة.
لعبة الخيارات المفتوحة
في لعبة الشطرنج كل قطعة لها مقدار وقيمة، فالجندي يساوي نقطة واحدة مهما كان لونه، وكذلك لكل من الفيل أو الحصان ثلاث نقاط، وللقلعة خمس، أما الملكة أو ما سمّي بالوزير فله تسع نقاط. وكلٌ من تلك القطع لها طريق ومسار تتحرك عليه وفقاً للهدف المخطّط المرسوم. فالملكة تتحرّك في كلِّ الاتجاهات العامودية أو الأفقية أو القطرية المائلة لا حدود لها، وبمثلها يتحرّك الملك المعظّم بحدٍّ لا يتجاوز الدرجة أو المربع الواحد، والقلعة كما الملكة باستثناء المسارات المائلة، والفيَلَة تتحرّك على الخطوط القطرية المائلة فقط وبأي اتجاه، باستثناء الحصان من القطع كلِّها، الذي يستطيع أن يقفز متجاوزاً قطع الخصم كما قطع الصديق على شكل (L) وبكل الاتجاهات!
وفي الشطرنج أيضاً حساب الاحتمالات والخيارات، فأنت لا تنقل نقلة قبل أن تحسب كل إيجابياتها الممكنة، كما كل السلبيات ونقاط الضعف التي ستتسبّب بها، وفي كثير الأحيان تحسب لعدة نقلات تالية. بينما يجب عليك بنفس الوقت أن تحسب حساباً مشابهاً لنقلات الخصم كلّها، ونقلات الخصم تلك هي المفاجآت الحياتية، وأي شخص يحسب نقلاته كلّها بطريقة صحيحة من دون الالتفات لنقلات منافسه، فهو خاسر بشكل مؤكّد، وذلك ما أشار إليه العالم والقائد العسكري الصيني “صن تزو” في منشوراته “فن الحرب” منذ أكثر من 2500 سنة حيث قال: “إذا كنت تعرف عدوّك وتعرف نفسك، ليس عليك أن تخاف من نتيجة مائة معركة، وإذا كنت تعرف نفسك، ولا تعرف عدوّك، ستشكو من هزيمة مقابل كلّ انتصار تحقّقه. وإذا كنت لا تعرف عدوّك ولا تعرف نفسك، ستنهزم في كلِّ معركة”. فعِلمُك بعدوّك يُعرِّفُك كيف تدافع؛ وعِلمُك بنفسك يُعرِّفُك كيف تهاجم؛
مهما تكن القطعة، قيمتها لا تتغيّر، باستثناء الجندي إذا ما تقدّم ووصل إلى آخر الخط في اللوحة، تتم ترقيته إلى رتبة أعلى يختارها اللاعب وفقاً لحاجته من الأسلحة للقضاء على ملك الخصم. وهو ما يتعارض مع لعبة الحياة على أرض الواقع، إذ أنَّ قيمة الإنسان تتغيّر من حال إلى حال، إذا ما كان قويّاً أو حزبياً، أو مدعوماً، أو تابعاً، أو كان ابن فلان، أو صاحب مال ممّا ورثه عن أجداده، أو ما ملكت يمناه حلالاً كان أم حراما، وهكذا…، لا شيء محدّد في الحياة يخضع لقواعد أو لقوانين عادلة يسير المرء على خطاها كما هو محدّد في لعبة الشطرنج.
التضحية من أجل البقاء
قد تختلف تضحيات الإنسان في الحياة، فقد يُضحّي من أجل عائلته بما استطاع من الوقت والمال والسهر والتعب والعرق وما شابه، وقد يبذل الغالي والنفيس من أجل صحته وبقائه على قيد الحياة، وقد يُضحّي بنفسه أيضاً من أجل بقاء الوطن وهي من صلب واجباته، والتضحية تكون من تصميمه واختياره وما كُتِب عليه واجب يلتزم به، وهذا ضروري لأن لعبة الحياة لا انسحاب فيها، فإما أن تتركها طواعيةً وبكل محبّة وخيارات مدروسة، أو مكرهاً وكما يقال: “مُجبرٌ أخاك لا بطلُ”! أما في لعبة الشطرنج فقد تضطر أحياناً للتضحية بإحدى القطع الأساسية كالفيل أو الحصان مثلاً لتربح ما هو أكبر قيمةً منه كالقلعة أو الملكة أو …، إنما يتوقّف اختيارك على الموقف الذي تواجهه في مباراتك مع الخصم، فإذا كان مفتوحاً تُضّحي بموت الحصان لأنَّ الفيل سيد الموقف، وإذا كانت المباراة مغلقة فعليك التضحية بالفيل، لأنَّ الحصان هنا سيد الموقف. وقد يضيع الإنسان بين خياراته غير المعروفة الاتجاه والأهداف وضبابية المواقف وتشعّبها، وتداخلها مع العديد من الأحداث، والتجارة بالموت عبر الحروب المصطنعة، فتضيع بذلك الإنسانية طبقاً لبرمجة الكبار وقراراتهم!
تلك هي الأحداث والخيارات الاستراتيجية الكبرى في حياتنا، فقد تضطّر أحياناً لترك القلعة “الرخ” في لوحة الشطرنج بالرغم من أهميتها لإنقاذ ما هو أهم منها كإنقاذ الملك وهو ضروري، كما أهمية التعليم في الحياة وتركه اضطراراً بسبب الفقرأو المرض، فأنت تتركه لإنقاذ صحتك، أو ربما تتركه لأجل إعالة أسرتك التي أنجبتك.
المواجهة المحتومة
تلك هي المسارات الصعبة التي نسلكها على منعطفات صاخبة، قاسية الانحناء، قد تعيد تشكيل سلوكنا كاملاً، ربما هي الغربة والهجرة والابتعاد والفِراق، أو الفقدان لعزيزٍ أو حبيب، أو خيانة صديق أو استسلام وخضوع، أو الفقر والعوز واختلال الحال نتيجة الطمع والجشع والرغبة على الاستحواذ على كلِّ شيئ في ظلِّ الفوضى العارمة، التي تمثّل قطعةً أساسية في اللوحة، يتخبّط فيها اللاعب الهاوي حتى يُطاح به ويخسر، بينما يقف المحترف حذِراً ماكراً، ومفكّراً مدركاً بكل الخيارات الممكنة في قمة الحماية والهدوء، التي تبقيه مواجهاً صلباً لتحقيق النصر ويربح.
لا مجال للمواجهة غير المحسومة النتائج، ولا مجال للتردّد أو الانسحاب من تلك المنعطفات، أو الهروب من الحياة.لذلك لا بدَّ أن تعاش كما هي بالمواجهة المدروسة بقدر الإمكانات، وبالتصميم والإرادات الصلبة، والمحتومة النتائج وأنه لا بدَّ أن نكمل اللعبة طالما أننا أحياء في واقع الحياة!
فالحياة ما هي إلاَّ لعبة شطرنجية يكثر فيها القتل والموت، لو استطعنا استيعابها، وفهم حقيقتها ومشاكلها، والتعلّم من أساليب كل منافس فيها، وغير ذلك من المهارات التي تُقدّمها، فإنّه بإمكاننا أن نلعب معها بطريقة ندَّية، لأجل مواجهتها وكسرها.