قصيدة “نجم أضاء” لمحمود عثمان… احتفالية للحبّ والحياة في مواجهة الموت

Views: 63

أنطوان يزبك

 ليس الموت نقيض الحياة بل هو جزء منها (هاروكي موراكامي)

ثنائية الموت والحياة، البداية والنهاية، الزمن والانقضاء، الديمومة والزوال، الشعور واللاشعور، الفرح والتعاسة؛ كل هذه التناقضات تبهرنا وتستحلّ أفكارنا وتلاحقنا إلى عمق أعماق أحلامنا وتشكّل مرتعًا لقلم الشاعر محمود عثمان وانطلاقة لهويته الشعريّة في وحدة مطلقة للوجود التي يحضر الموت فيها في كلّ آن وعند كل منعطف مع توالي الزمن وانقضاء الأيام وتهافت القرون…

وها هو محمود حين ينظر إلى الفلك الواسع المرصّع بنجوم لا نهاية لها؛ يذكّرنا بمقولة لكانط حين يثني على العظمة الإلهية من خلال عدد الأفلاك بالمليارات، بالإضافة إلى تلك المشاعر الأخلاقية التي تستوطن القلب والمشاعر، وكأن شاعرنا يرى إلى الفلك انعكاسًا لكل حياة بشرية، فإذا ولد إنسان ههنا أضاء مقابله نجم في الجلد، وإذا مات يخبو نجم في المقابل بين ملايين النجوم التي ترصّع السماء؛ فهل نحن أمام قصيدة تستعيد رواية “الأمير الصغير” لأنطوان دو سانت إكزوبيري، أم أنها تصوّر معتقدات بوذية توصل الماضي الأثيل بعصر الأنوار ونظريات “جيوردانو برونو” القائلة بأن الفلك لا نهاية ولا بداية له؟!..

القصيدة فيها احتفالية للحبّ والحياة في مواجهة الموت، وفيها ثنائية الحياة والموت، وفيها انطلاق الحياة من الأرض من خلال ديناميكيّة عضوية وعصارة الحياة والنسغ والإيناع، وذلك حين يقول:

“نجهل الأمر إلا أننا ورق

تلهو به الريح والأمطار والعشب” 

فالريح والأمطار والعشب إن دلّت على شيء فهي تدلّ على القوّة الجبّارة الكامنة في الكون والوجود والحياة، والتي لا شيء يثنيها أو يمنعها من التفجّر والتكوّن مثل الأنهر الشتوية التي تعود إلى صخبها في الربيع بعد أن يكون قد كبّلها الجليد أو حجر عليها الجفاف!..

وبالعودة إلى الموت، لا يقبل محمود عثمان، تلك المقولة الوجوديّة (كامو-سارتر) بأن الوجود يختصر الموت والحياة على حدٍّ سواء، لا بل نراه يزدري بالموت ولا يجد سوى الحياة والأمل والحركة والاندفاع وكل ذلك من خلال ديناميكية الحب حين يرى الموت يخطف الأنفس إلا أن الثأر منه يحصل من خلال الحب، وكأنه بذلك يسير مستنيرًا بتعاليم “أبيقور” الذي يعتبر أن الموت أمر لا يعنينا، إذ عندما نكون أحياء، لا يكون له وجود، وعندما يحلّ، لن نكون على قيد الحياة حتى نراقب مفاعيله وكيفية التعامل معه، لذلك من الأجدى أن لا نفكّر به ونقلق بل نعيش حياتنا ونلتقط كل لحظة حلوة فيها، على طريقة الـ carpe diem، أي اغتنم النهار (التقط اللحظة الراهنة التي لن تعود ثانية)، ذلك من خلال الحب ولا شيء غيره، قبل أن “يغادر الصيف” ويحلّ محلّه الشتاء فكل شيء في الطبيعة يدلّ على ذلك ولا ريب الشتاء قادم من بعد انقضاء خريف العمر!!..

إزاء كل هذا الاندفاع تبقى غمامة من الخوف والريبة تغلّف ذهن الشاعر، وهي غمامة الحرب والموت بطريقة مرعبة، ومن يلقى حتفه بعد عذاب غير موصوف، قد لا تغادر روحه الأرض بسهولة إلى أماكن الراحة وجنات المشاهدة الطوباوية لوجه الله السّني. وصورة الموت في هذه القصيدة متمركزة في اليمّ العميق الذي يبتلع كل الضحايا:

“هل يزبد البحر حتى ينتشي غرقًا

أم الشريعة فيه البطش والحرب”.

إن للبحر مدلولات كثيرة في ما خصّ الموت غرقًا، وحين تخبر التنبؤات أن في يوم القيامة سيلفظ البحر كل موتاه الذين ابتلعهم، وننظر إلى بحر طرابلس الذي ابتلع في الماضي الباخرة الإنجليزية “فكتوريا” والباخرة عبد الرحمن في ثمانينات القرن الماضي، وصولا إلى قوارب الموت التي راح ضحيتها أبرياء يهربون من فظائع ليتلقفهم بحر أفظع ويميتهم ميتة شنعاء مرعبة، ندرك ما لهذا البحر من صورة مأساوية في روع الشاعر محمود عثمان، هذا البحر الذي لا يشبع من ابتلاع الضحايا البريئة وإزهاق أرواحها!

نعم في هذه القصيدة ثنائيات كبرى، حتى لا نقول متناقضات، فيها جمال الانبعاث من رحم الحياة، كما فيها رعب الوجود وجزع الموت وأشباح الحرب والقتل وسفك الدماء، فالإنسان يقتل والطبيعة تقتل ولا يغيب المظهر المرعب والمشهد النهيوي عن أسراب الطيور وهي تغادر عند تبدّل الفصول واقتراب مواسم الصقيع والتجمّد والبرد الموازي للموت!!

أجل هذه الطيور الزاعقة:

“وللطيور صفير وهي راحلة”

تذكّرنا بجحافل الطيور التي انقضت على جزيرة وأخذت تهاجم البشر والحجر بشكل هستيري زارعة الموت والجراح المثخنة في فيلم هيتشكوك “الطيور The birds ” ، فعلى ما يبدو لا يستبعد محمود عثمان حلول الروح الشيطانية الإجرامية في الطبيعة وفي كائناتها خاصة ثنائية (البحر-الطيور)، حيث نجد في مجتمع الطيور ما نجده في مجتمع البشر من أحقاد وضغائن وعنف وارتكابات.

وحين يقول الشاعر:

“أنت وحدك…

عيناك تنظرُ مثل النسر منطلقًا

من غير سرب”

نبدأ بطرح أسئلة أخرى؛ هل تذكرنا هذه “الوحدة” بجوناثان ليفنغستون طائر النورس الذي استبعدته عشيرة النوارس بسبب الاختلاف، أو لضعف ما فيه، وقرر العودة أقوى وأفضل ليترأس معشر النوارس ويقيم عليهم ملكًا؟!!

أم أن الشاعر يرى في النسر ذلك الطائر المحلّق، القادم من قصائد بابل وسومر وأشور، وعلى أجنحته علائم التفوّق والنبوغ الشعري العابر للعصور والثقافات والفنون والجماليات والأمزجة والرغائب السرّية والمستترة؟!

يقول سقراط ما مفاده أن الموت يمكن أن يكون من أعظم النعم الإنسانية، لكن في هذه القصيدة أخذ الموت تفسيرًا مختلفًا، صار الموت علامة لحلول مغرية، وانعكاسًا لصورة الإنسان في الطبيعة، لا كما أرادتنا هي خاضعين لنزواتها بل كما يريدها الإنسان من خلال عمل الحبّ فيه وفي الطبيعة على حدّ سواء!

أجل جاء  الحب في هذه القصيدة محفزًا كما البقعة الحمراء في لوحة غويا “السوداء والرماديّة”، جاء مثل نجمة مضيئة تتحدى الليل القطبي الطويل والإغلاق الجليدي الآسر للطبيعة وللأرواح على حدّ سواء.

جاء الحب كما في روايات ميشيل زيفاكو “حب وحرب”، موت في الميمنة وقيامة في الميسرة، أفول في مكان وإشراق في مكان آخر وكلّ ذلك بسبب خيار أخلاقي أراده الشاعر، أراد أن يحافظ على الحياة من خلال كتابة الشعر إيمانًا منه بأن استمرارية الوجود هي في استمرارية الأدب، والقصائد ليست سوى انبعاث جديد للأرض الأم التي لا تني تتلو صلاة وأشعارًا طقوسية بدأت مع الكاهنة “إنهدوانا” كاهنة الإلهة “إنانا”، وبقيت إلى هذه اللحظة ترددها القصائد العاشقة!…

***

 

محمود عثمان

 

  نجمٌ أضاءَ ونجمٌ قربَهُ يَخبُو

هذي الحياةُ فلا تهتمَّ يا قلبُ

مِن حَولِنا الموتُ خَطَّافٌ بلا سَببٍ

لا ندركُ الثأرَ منهُ ثأرُنا الحُبُّ

يا عاشقَ الصَّعبِ والدنيا مراوغةٌ

سيَّانِ عند رضاها السَّهلُ والصَّعبُ

ونجهلُ الأمرَ إلا أنَّنا ورَقٌ

تلهو بهِ الريحُ والأمطارُ والعُشبُ

هل يزبدُ البحرُ حتى ينتشي غرَقًا

أمِ الشريعةُ فيهِ البطشُ والحَربُ

قد غادرَ الصيفُ والأجواءُ عابسَةٌ

وفي السَّماءِ تُواري بعضَها السُّحبُ

ولِلطُّيورِ صَفيرٌ وهْيَ راحِلةُ

تلامسُ الأرضَ أو يعلو بها الرُّعبُ

وأنتَ وحدَكَ مثل الخمرِ صافيةً

في مُهجةِ الكأسِ منها يَحرُمُ السَّكبُ

عيناكَ تنظرُ مثل النَّسرِ منطلقًا

من غيرِ سِربٍ … ولكن وحدَهُ سِربُ  

(https://www.tmjandsleep.com.au/)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *