منير أبو دبس الحاضر في المسرح والغائب في الذاكرة

Views: 145

سليمان بختي

 

عرفت المسرحي الراحل منير ابو دبس (1932-2016) عن قرب في المرحلة الثانية التي عاد فيها الى لبنان اي في العام 1997 وكان منهمكا في اعداد مهرجان الفريكة وتدبيرها في خان الحرير. كانت شهرته قد استوت في مرحلة ما قبل الحرب كرائد للمسرح الاختباري الحديث في لبنان، بدا لي كاهن المسرح في ذلك الوقت كانه في الدير وحده يصول ويجول متقشفا عفيفا ملبيا نداء المسرح بطاعة وطواعية نادرة. كان يتدبر امر الاشياء بصنع اليدين والحيلة ورأفة القلب وشغف الروح. اما الشباب الذين اشتغلوا معه فكأنهم اولاده حال نضوج الصداقة. وهو بطبعه منفتح على تجارب الاجيال للآخر الآخر.

منير أبو دبس

 

ولد منير ابو دبس في انطلياس عام 1932( الاصل من الفريكة). وفي انطلياس طبعت ذاكرة ابو دبس ومخزونه الخيالي. وكان عاصي الرحباني يحضر لمشاهد مسرحية لمناسبة البربارة فاعطى منير دور البربارة ولم يتخط العاشرة. كان منير ينادي عاصي “يا معلمي” لانه درّسه العربية. ويروي ابو دبس ان فيروز في بداياتها تلقّت تمارين مسرحية على يديه.

تلقى دروسه في مدرسة الحكمة وهناك اسس مع الروائي جورج شامي ناديا شعريا. منذ يفاعته جذبته باريس لمطاردة شغفه في الفنون: الرسم(نال جائزة قيصر الجميل) والموسيقى والتمثيل والاخراج. التحق بداية بالمعهد الوطني لتعليم الموسيقى وفن الاخراج المسرحي في باريس. وبعد عام تركه والتحق بمعهد روجيه غايار للتمثيل المسرحي ثم الى الكونسرفاتوار دارسا الاخراج السينمائي. دخل الى المسرح الاغريقي ومثل فرنسا مع الفرقة في بروكسل وايطاليا. واخرج فيلمه الاول “العصا السحرية” ثم “المعبودات الثلاث”. وقدم اكثر من عشرين فيلما للتلفزيون الفرنسي. (samdrewtakeson.com) ولكن تحفته السينمائية كانت “الامير بشير الشهابي”. عاش في بيت الفنون وفي حي الفنانين وفرض اسمه على التلفزيون والسينما والمسرح في فرنسا. وكان صديقا لجان بول سارتر وسيمون دي بوفوار. ولكن قدره ان يعود الى لبنان ليشعل نهضة. وبروحية الفارس تقدم وهو اليعتبر المسرح حصان طروادة في هذا العالم.

انطوان ولطيفة ملتقى

 

بعد عودته من باريس عام 1960 كانت الابواب مفتوحة امامه: التلفزيون ومهرجانات بعلبك وتأسيس معهد التمثيل الحديث (وموقعه في بناية الداعوق، رأس بيروت). “كلهم اشتغلوا معي تقريبا” انطوان ولطيفة ملتقى ريمون جبارة وتيودورا راسي و انطوان كرباج وميشال نبعة والياس الياس ومادونا غازي و نبيه ابو الحسن ورضى خوري ومنير معاصري وميراي معلوف ورفعت طربيه ورينيه ديك وجوزف بونصار وغيرهم. واسس معهم فرقة المسرح الحديث. حتى ان الشاعر انسي الحاج ترجم ودخل في بروفات مسرحية معي. كما ترجم ادونيس واسعد رزوق مسرحيات للفرقة. قال لعبيدو باشا في احد حواراته:” كنت البحر الذي لم يتورعوا عن القفز فيه لكي يتعلموا السباحة”.

عمل بين 1960 و1970 مديرا فنيا في مهرجانات بعلبك وقدم بالاتفاق مع مهرجانات بعلبك.عدة مسرحيات “اوديب” و”انتيغون”و” ماكبث” (1962) جبيل، و”الذباب ” (1963) جبيل،و” الازميل” (1964) مهرجانات بعلبك وجائزة اصدقاء الكتاب. “ملوك طيبا” (1966) صيدا و”الملك يموت”(1965) دير القمر و”فاوست” (1968) دير القمر، بيت مري. “علماء الفيزياء” (1966) وست هول “نبع الحقيقة”(1969) مسرح مهرجانات بعلبك القنطاري.

ريمون جبارة

 

عام 1971 اسس منير ابو دبس مدرسة بيروت للمسرح الحديث وعرض “الطوفان” واعاد عرضها 1972 في مهرجان برلين. بلغت اعماله حوالي 23 عملا بين اخراج وتأليف واقتباس. كان يهمه الممثل اذ يقول لا معنى للنص في المسرح، الممثل هو النص. هو التجريد. هو المكان المتقشف. هو الشمعة هو الرداء وهوالرائحة. هو الوصول الى نقطة في الداخل لا يصلها قبله احد. ولكنه استقر مؤخرا على مصطلح سماه “المسرح الاتفاقي” وتشمل الممثل وطريقة التمثيل. الممثل والجمهور. المسرح والمكان. واعطى مثلا “مسرح شوشو”. ولكنه اضاف:” استهلكني النص القديم واريد الاحتفال المسرحي”. ويعترف: “في الواقع عملت على تدريب الممثلين اكثر مما عملت على الاخراج”. مع بداية الحرب عاد مجددا الى باريس بين 1977 و1997  وكان صاحب محترف تدريبي للممثلين المحترفين في باريس بالتعاون مع وزارة الثقافة الفرنسية. حدسه ثاقب على هدوء ملامحه. ويعرف الطاقة الفائضة في الانسان الذي يقابله او يحادثه. ويعرف كيف يوظف ذلك في عمل ثقافي انساني ابداعي حضاري.

قدم في الفريكة بعد عودته عام 1979 مسرحية “موسيقى الالغاز” وقدم “اوديب ملكا” في مهرجانات بيت الدين. وقدم العم “فانيا” تشيخوف و”الكراسي ” لاونيسكو. ومن تاليفه قدم “اشارات في الليل” و”التنين” و”ساعة الذئب”. اما آخر ما قدم فكان “التمثال والحلم”2010 من تاليفه واخراجه واعتبرها الاقرب الى تساؤلاته. واعاد تقديم ماكبث 2014 وكان حوله من الشباب ادهم الدمشقي ونسرين الاشقر، وطارق انيش و مايا سبعلي ونايله حجار. ولما رأيتهم يدورون من حوله تذكرت ما قاله شوقي:” شاب من حولها الزمان وشابت/ وشباب الفنون ما زال غضا لادخالها”.

انطوان كرباج

 

اذكر انه دعاني الى المهرجان السنوي الذي كان يقيمه في الفريكة (خان الحرير) الى مداخلة مع الممثل انطوان كرباج والرسام جميل ملاعب وكانت الندوة بعنوان “مفهوم الزمن في الفكر والادب والمسرح” و تبعها نقاش مثمر وغني ولكنه استبقاني لحديث آخر تحت ضوء قمر الفريكة. احسست انه كان شغوفا بالزمن. بالعمر الذي يجري. والوقت الذي يمر. بغبار الزمن المتراكم فوق الجدران والعيون. تحدث عن فاوست وهايدغر وغادامير. قال شيئا من الزمن وخط الرمل وعن السماء والصحراء. عن الذاكرة والحلم. ولكنه توقف عند عبارة وردت في المداخلة للشريف الرضي ودوّنها في مفكرته الصغيرة وراح يرددها باعجاب “القلب ذهن يحوم على معنى مستحيل”. “لقد فسرها”، قال:” الزمن يمضي خلف هذه الاشياء ولا نراه لانه يحوم على المعنى”. كان مهتما ذات فترة في اعادة نشر اعماله المسرحية ووضع ملاحظاته البسيطة على الشكل. كان لا يهمه ان لا يكون الشكل كثير التكاليف بل ان يرسخ المعنى ويجوهره ببساطة. عدا المؤلفات العربية كان له بالفرنسية:” الممثل بلا قناع” 1968 و”دائرة النار” 1976 و”دراسة الممثل” 1980 و”النداء” 1980 و”زمن المرايا” 1980 و”النسيان المقفل” 1981.

احب منير ابو دبس شعراء الحداثة: يوسف الخال وادونيس وشوقي ابي شقرا وانسي الحاج وفؤاد رفقة. وروى كيف جلس غير مرة مع الشاعر خليل حاوي في مقهى في ضهور الشوير وقرأ له مسرحية “جبران الشاهد” التي كتبها وقدمها في بيت مري. وكتب في شهادته في ذكرى خليل حاوي: “اي جنية اتت اليه/ اعطاها مفتاح بيته وعبر/ كانت الوديان ساحقة على يميننا/ كأننا طائران/ غطا لحظة/ صار العلم تمثالا/ ثم طارا كل الى آفاقه”. 

 

نتذكر الرائد منير ابو دبس وبشهادة خالدة سعيد في كتابها “الحركة المسرحية في لبنان”  اذ تقول :”كان ابو دبس اول مسرحي لبناني ينطلق من نظرية مسرحية ، واول من نادى برفع مستوى الثقافة الروحية لدى الممثل الى مستوى ثقافته الجسدية”. نتذكر المؤسس منير ابو دبس بعد 5 سنوات على رحيله وكيف يكاد يندرذكره ولا تزال بصمته جلية. ونعرف ان المؤسس لا تهمه الدوائر بل النقطة التي يلتقي فيها الممثل والنص والسينوغرافيا والخشبة والمتلقي. اعتقد ان تلك النقطة هي ضوء الشمعة الذي يضيء  من ذاته وينتفض ويذوب ولكننا من دونه في عتمة حالكة. هو الذي كان يردد “كذلك الضوء يجب الا يقلق العتمة”. توفي منير ابو دبس في باريس متأثرا بسرطان البروستات ودفن في الفريكة. لا يزال مسرحه في خان الحرير- الفريكة مقفلا ولا بادرة لتكريمه في الافق والامانة في ذمة لجنة مهرجانات بعلبك والحركة المسرحية في لبنان واهل الثقافة والفنون.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *