قطارُ الحياةِ بريشةِ الرّسّام، أو رؤيةِ المجسّدِ، أو فكرِ الفلسفةِ
جوي جوزف صليبا
* اللوحة بريشة المجسِّد Alireza Karimi Moghaddam- من وحي أعمال الرّسّام فان غوغ (Van Gogh)
راسمُ اللحظات هو الذي ينتظرُ القطار قبل أن يفوت ليرسمَه. مجسِّدُ اللحظات هو الذي يجلس داخل القطار، يرى الرّسّامَ وما خلفه، ويعبّر بريشته. متقنُ اللحظات هو الذي يقف قرب السّكّة الحديديّة غير منتظر للقطار. وهو الذي يجلس خلف المجسِّد-إن أراد الصعود-، فيتقن رسم المجسّد وتجسيد الرّسّام.
ما بين الريشة والرّسّام رؤية، وما بين الرؤية وما خلفها تجسيدٌ، وما بين التجسيد والرّسم إدراك لحظات. من يبيت بين الريشة والرسم، ينتظر القطار، يكون متأمّلًا. من يجلس بين الرؤية وما خلفها، داخل القطار، يكون محلِّلًا. أمّا من يقف بين التجسيد والرّسم، بين المتأمّل والمحلّل، بدون انتظار القطار قرب السّكّة، فيكونُ فيلسوفًا مدركًا للأيّام، ولا يهمّه من فوات القطار إلّا فوات الأوان قبل أن يجلس داخله في المقعد الخلفيّ يراقب المجسّد والرّسّام.
بين التأمّل والتّحليل نظرةٌ، وبين التأمّل والفلسفة فكرُ رؤيةٍ، وبين التّحليل والفلسفة منطق تفكّرٍ. من يدرك الأخيرة يتقن عيش اللحظة بعبثيتها – دون الالتفات إلى الخلف، أو الاهتمام بالمقعد الأماميّ- وعيش اللحظة هي فلسفةُ حياةٍ بحدّ ذاتها. من يصعد القطار ويعود إلى الثانية يكون ماهرًا في فهم الأبعاد، ومن يجالس الأولى يميل بنظرته إلى الحياة التأمّليّة.
المنتظرُ، المتأمّل، الرّسّام، شعوريّ شاعريّ في رؤيته. صاعد القطار، فاهم الأبعاد، المجسّد، رؤيويّ في شعوره. أمّا اللامنتظرُ، الفيلسوف، متقن موقن اللحظات، فهو الشعوريّ، والرؤيويّ، والرّسّام المنتظر، والمجسّد المراقب. هو الذي يستمتع بدخان القطار لحظة مروره، وضباب الدخان لحظة ما بعد المرور. هو الذي يجالس الطبيعة المتجّهة نحو النور دون همّ الانتظار. هو من بلغ في تفكّره فنّ فلسفة الحياة. هو من بلغ الحرّيّة، ومن كان حرًّا، وصل محطّة الفلسفة وما بعدها في الإدراك.
بين الرسم والتجسيد فهمٌ، لكن بين الرسم والتجسيد وإدراك اللحظة تكمن روحانيّة العقل، وتفكّر الفلسفة. فمن كان رسّامًا تفرّد بريشته، ومن كان مجسّدًا تميّز برؤيته، ومن ألمَّ باللحظة تفرّد بفلسفته، وتميّز بفنّ حياته، فكان الرّسّام العاقل، والمجسّد المفكّر. ومن كان فيلسوفًا بات حرًّا في اِختيار الريشة، أو الرؤية، أو ما بعدها. فقطار الحياة خِيار بين اثنين، أو خِيار يجمع اثنين وما بعدهما في جسد واحد “العقل”، وروح واحدة “التفكّر”، وفكر واحد “الفلسفة”.