غاستون باشلار…أكثر الشعراء فلسفة والفيلسوف الأكثر شاعرية
وفيق غريزي
تنقسم أعمال الفيلسوف الفرنسي المعاصر غاستون باشلار، الى قسمين متميزين: قسم يظهر تأملاته الابستمولوجية حول تطور الفكر العلمي المعاصر، والعوائق التي يواجهها حينما تنتقل مقولات الحس المشترك الى مقولات لهذا العلم. ويفكر باشلار ايضا من خلال ذلك، في الدور الذي تلعبه الرياضيات في هذا التطور العقلاني، والدروس التي يمكن استخلاصها خاصة بالنسبة الى بيداغوجيا العلوم الدقيقة. ونراه هنا يسائل فلسفة علوم عصره ولا سيما الوضعية والعقلانية والواقعية، متهمها جميعها بكونها ستاتيكية جدا، وبالتالي عاجزة عن ان تصنف معرفة وفكرا يتميزان بالدينامية. والقسم الثاني: كرّسه باشلار بشكل حصري لتجليات الأدب والفن والتي تمليها طاقة العناصر الكونية الأربعة “النار والماء والتراب والهواء” على خيال المبدع للذات الحالمة.
ويشكِّل كتاب غاستون باشلار “نحو نظرية في الأدب” محاولة لاعطاء جمهور اللغة العربية، نبذة عن مشروع باشلار، وتقريبه من تأملات، يمكنها أن تثير مفكري اليوم.
الحلم والفكر
الحلم فكر استنفذ فتوته وجدته، والفكر حلم يستبطن باستمرار هواجسه، ونرجسيته، فانه يتمرأى العالم بشهية. ويقول الموًلف: “الحلم هو الترياق الأولي لكل فكر يخشى على ذاته، أي البقاء والاستمرار “. عملية لا يمكن ادراكها الا خارج النسيج الاجتماعي والثقافة السائدة.
نحلم باللغة، تبدو العلاقة بديهية، انطلاقا من فرضية ان العالم كاين لغوي بامتياز، يحلم الفلاسفة بالمفًهوم، ويستكين الشعراء الى الصور الجديدة، في حين يلتجىء غيرهم الى تكثيف لحظات السكينة واليقظة الشاردة.
باشلار والشعراء
غاستون باشلار، ذلك الذي يمكننا تسميته “اكثر الشعراء فلسفة والفيلسوف الاكثر شاعرية”، يقول: “انظروا ارجلي، انا فيلسوف للعلوم، انظروا الى اجنحتي، فانا شاعر”. هذه الشعلة الكبيرة التي تنقل ارتعاشتها ونورها الى روح كل الشعراء، تنطفيء القصيدة في حداد، ذلك الذي قال : كل شيء يرتج حين يرتعش النور”. لقد كان باشلار منارة بالنسبة الى الشعراء، يلهمهم ويحسون بأنه واحد منهم، منذ كتابه التحليل النفسي للنار الذي يفتتح ويختتم على مقولة للشاعر بول ايلوار، يمكننا القول بان القصيدة اجتاحته شيئا فشيئا، تكلم نيرفال عن تدفق للحلم في الحياة الواقعية، فاننا نعاين تدفقا للقصيدة داخل روح هذا الفيلسوف، وفي كتابه “الماء والاحلام” ستظهر لأول مرة قاعدة العناصر الاربعة والتي لن تقدم لباشلار خط التوجيه في المتاهة الشعرية، بل ستغير بعمق سلوك مجموعة من الشعراء المعاصرين، ويؤًكد باشلار انه فقط اذا تمكنا من دراسة الصور وذلك باسنادها الى مادتها الحقيقية، يمكننا تأمل نظرية كاملة للخيال الانساني. الصورة نبات يحتاج للارض والسماء، وكذا للجوهر والشكل. يعتقد باشلار بان نظرية للخيال عليها، قبل كل شيء دراسة روابط العلة المادية بالعلة الشكلية، هذه المسالة تطرح عند الشاعر والنحات معا. المؤلف سعيد ابو خليط: “يظهر الشاعر الفيلسوف فصيحًا لكي يتكلم عن الماء بعد النار، ليس الماء بزينة للمنظر الطبيعي، لا تتسلوا بلعبه السطحية، ولكن ادخلوا الى عمقه، ستكشفون حينئذ ان الماء نموذج للحميمية وصورة لقدر جوهري يحول بلا توقف جوهر الكائن، اننا لا نسبح في النهر نفسه مرتين، لانه قبل ذلك فان الكائن الانساني في عمقه له قدر الماء الذي ينساب”.
هذا الانخراط في اللامرئي يشكل القصيدة الأولى، القصيدة التي تمكننا من ان نحب قدرنا الباطن. وشدد باشلار على انه اذا كانت هناك من مهنة للشاعر فهي الوظيفةالثانوية، والتي تقوم على جمع الصور، لكن حياة الصورة باكملها وفي وميضها، بحيث ان كل صورة هي تجاوز لكل معطيات الحساسية.

الصورة الشعرية
ما هي ماهية الصورة عند باشلار؟
يحرص المؤلف على اختيار تعريف، لنقل فقط، بأنه يجب أخذ الكلمة في معناها الواسع ودلالاتها المتعددة، وبأن الصورة عند هذا الفيلسوف هي قبل كل شيء مولدة لحلم اليقظة. يجب “التمييز بوضوح بين الصورة والمفهوم”. الصورة الشعرية ابداع للروح، وبروز اللغة انبجاس يعلو دوما اللغة الدالة شيئا ما، مانحة للوجود. وفي هذا السياق يقول الموًلف: “نفهم بأن الصورة الباشلارية يمكن ان تأخذ بالفعل اشكالا مختلفة، ويمكنها مثلا ان تتطور تقريبا. ويكفي ان تكون مادية ودينامية حتى ترفع مرساة حلم اليقظة وتضع الخيال في ارتجاج”.
لقد اعترف باشلار بالقيمة الخاصة للصورة السوريالية التي تربط بين حقيقتين متباعدتين لكي تجعل منهما حقيقة جديدة، عنصران مثلا لهذه الصورة – الجمل او الحكم الشعرية التي تلقي بنا داخل عالم جديد. لقد دخلنا، مع شعراء عصرنا الى عهدة القصيدة المباغتة، قصيدة لا
تثرث ابدا، لكنها تتوخى أن تعيش دوما الاقوال الاولى. ويرى الموًلف ان باشلار يتوخى الاستفادة بعمق من ايحاءات الشعراء. وبالنسبة إليه فان الحكم الشعري ليس هو اقصى شكل يمكن ان تأخذه الصورة، يمكننا احيانا ان نكتشف من خلال مقطع او جملة اصل صورة، صورة اصل ومبدأ صورة. كلمتان مترابطتان في وحدة يمكنهما ان تشكلا اساسًا كافيا في بعث حلم. اليقظة الشعري، مثلا بالجمع بين عنصرين متضادين. انها حالة سوريالية، مثل “شعلة ماء” لاندريه بريتون. ويؤكد باشلار ان صورة لوي غيوم مختفية اكثر.
باشلار لدى العرب
كما عند الغربيين كان باشلار عند العرب دعامة لتدريس الفلسفة. نظرة خاطفة تظهر بان الصف النهائي والدروس الموجهة للطلبة ثم الرسائل والاطروحات تحمل صدى الفكر الباشلاري قبل المؤلفات اللامدرسية.
يؤكد المؤلف ابو خليط ان ما يشكل عائقا بالنسبة للثقافة العربية المعاصرة، هو عجزها عن الاقرار بالتاريخانية. الشيء الذي يجعلها تأخذ الماضي البعيد كحاضر حي دوما. ويبدو أن قراءة باشلار بنفس هذه الثقافة تقر هذه الفكرة بطريقة جلية. كل “شيء يقوم كما لو أنه اذا عملنا تقريبا على تحنيط فيلسوف لم يكن كذلك، فاننا نتوخى بسرعة ان نجعل منه مفكرا داخل التاريخ من اجل الحيلولة دون ان يكون مفكرا للتاريخ”.
قراءة باشلار من خلال الثقافة العربية، يضعنا بلا علم ومن دون ان نفكر في ذلك سابقا، داخل سياق يظهر بأنه يمكننا من تشكيل بعض عناصر ما يمكننا تسميته بنظرية التلقي، وليس هناك صعوبة في ترجمة باشلار الى العربية، الصعوبة بنظر المؤلف تتجلى بالاساس في ترجمته بطريقة مفهومة، اي اعادة السياقات والجدالات العلمية التقنية والفلسفية الموجودة خلف الباشلارية والتي تمكن من فهمها، بدونها ستبقى مجرد انتاج اجنبي.
والاكثر صعوبة هو تطعيم ثقافة لم تعش ذلك، بحركة تاريخية بظلماتها وانوارها. والشارحون العرب لباشلار، ظلوا ضحايا لما يمكن تسميته بعائق ابستمولوجي، والذي قد يأخذ شكل حكم مسبق او فكرة ثابتة، يبحثون على الصاقها بالنصوص مما يغيب عنهم معناها الحقيقي، بمفاهيم اخرى، كل شيء يقوم كما لو أن المادية الديالكتيكية تشتغل مثل ستار يحجب الفهم الحقيقي لحمولة الديالكتيك العقلاني.
ويشير الموًلف الى أن الأدب الفلسفي العربي تبنى بخصوص باشلار موقفا لا يفتقد، لا للاختزالية ولا للازدواجية. من جهة اختزال الباشلارية الى بعض المفاهيم المعزولة عن سياقها، وبالتالي لا تدرك غنى هذا الفكر وعمقه. ومن جهة اخرى “فاذا كان الفكر او بالاحرى ما بقي منه لم تتم ابدا مقاربته في ذاته، ولكن دوما من خلال وجهة نظر غربية عنه، لذلك تمزق بين محورين متعارضين، يظهر احدهما كنقطة انطلاقه. يتعلق الأمر هنا بما يجب تجاوزه، في حين ان الآخر يشتغل وكأنه وجهة نظره المتوخاة، حيث سعى للوصول اليها، لكنه اخفق في ذلك.