الحرية هي وقود الثورة الوجودية ومحور قيمها

Views: 844

د. عمر الطبّاع

أولاً: الفعل الوجودي هو المقولة المركزية

خالف الوجوديون معطيات السيكولوجيّة القديمة، ولا سيّما ما يتعلق منها بالتقسيم التقليدي لقوى النفس القائم على الإدراك العقلي، والشعور الوجداني، والنزوع الإرادي. فالوجوديّة تنظر إلى الذات الإنسانيّة على أنها وجود فاعل في جوهره، أكثر منه وجوداً مفكراً. فالفعل هو المقولة المركزيّة للوجود كما يقول “بلوندل” (Blondel) في كتاب له بعنوان “الفعل” (L’action)، الذي تضمّن جدلاً جديداً تحتوي فيه مقولة الفعل الشاملة على الفكر لكنها يقيناً، لا تلغيه”.

بلوندل

 

 ويبدو أن مقولة بلوندل المتعلّقة بتقدّم الفعل على الفكر، إنّما هي تكريس لظاهرة الفعل التي برزت في “يوميّات” المؤسس الأول “سرن كير كجورد” سنة 1835، فقد تساءل يومذاك عن الفائدة التي يجنيها إذا ما درس جميع المذاهب الفلسفية واكتشف ما يسمّى بالحقيقة الموضوعيّة، أو استطاع تطوير نظريّته في الدولة، ورتّب كلّ التفصيلات وبنى على هذه الصورة عالماً لا يعيش فيه بل يعرضه فقط أمام أنظار الآخرين . . “إذا لم يكن لهذا – كله – مغزاه العميق بالنسبة إليه ولحياته”؟. إنّ هدف الحياة عند كيركجورد، هو ما حدّده في عبارته: “إن ما ينقضي في الحقيقة هو أن أرى نفسي بوضوح، أن أعرف ما يجب عليّ أن أعمله”.

 

ثانياً: الوجوديّة ليست “برجماتيّة”

وشرّاح الوجوديّة، يلفتون إلى استدراك ذي شأن حين ينبّهون المهتمين بالمذهب الوجودي، إلى أن “الفعل” بصفته الوجوديّة لا يعني أي حال من الأحوال الجانب العملي كما تفنّده “السوسيولوجيا” التجريبيّة. كذلك تبقى الوجوديّة غير معادلة لمذهب “البرغماتيّة” (Pragmatisme) لكونها تبني نظرياتها على “العمل” وتجعله نقطة الارتكاز في الشخصيّة الإنسانية. معنى ذلك أن “الفعل الوجودي” لا يخوّلنا أن نسوّي بين “الإنسان الوجودي” و”الإنسان العملي”، لأن الإتفاق اللفظي الظاهر بين “الفعل” و”العمل” لا يقابله اتفاق في “الماهيّة” فالبرجماتيّة ذات معايير اجتماعية في الحقل العملي اليومي أو الإقتصادي، وأمّا الفاعلية الوجوديّة فتعبير “يشمل الإنسان ككل، فهو يتضمّن كلاّ من الفكر والانفعال الطاغي في آن واحد: ولو لم يكن هناك فكر أو انفعال، أو قرار داخلي لما كان هناك شيء جدير بإسم الفعل”. وعلى نحو أكثر تحديداً أن “أفعال – الوجودي – أكثر من أن تكون أعكالاً يمكن ملاحظتها بطريقة تجريبيّة، فهو فيها يبتعث صورة للشخصيّة ويحققها” في وقت واحد. فالفعل الوجودي ليس تخطياً من “السكونيّة” إلى الدينامية بل هو احتواء لكلّ أبعاد الوجود البشري بما فيها الحريّة، فحريّة الإنسان ليست لاحقة لوجوده “فكونه إنساناً معناه أنه حرّ بالفعل”.

جان- بول سارتر

 

ثالثاً: الحريّة المكوّن المعادل للفعل الوجودي

قد يفهم من العبارة الأخيرة أن الحريّة جزء من محتوى الفعل الوجودي، فإذا عنينا بذلك اشتمال هذا الفعل على الحريّة لا كجزء كميّ بل كوجه معيّن من وجوه الجوهر الكليّ للفعل، كان مثل هذا الإدراك مطابقاً لخاصّية الحريّة الوجودية.

كيركيغارد

 

الحرية في الفعل الوجودي هي إذاً المكوّن المعادل لهذا الفعل، فالوجوديون بلا إستثناء بدءاً بكير كجورد ووصولاً إلى كامو وسارتر ينظرون إلى الوجود الإنساني والحريّة على أنهما شيء واحد، أو متّحدان في الجوهر، غير أن وحدة النظر هذه لم تحل دون إعتراف هؤلاء الفلاسفة بأنّ الحريّة في ذاتها تبقى سراً غامضاً، وأبسط ما يمكن أن يساق في هذا المجال – بلسان “بردياييف” الذي، كسائر الوجوديين لم يأخذ بالبراهين التقليدية لإثبات حريّة الإرادة – “أن الحريّة ليست موضوع برهان، بل هي مسلّمة يفترضها الفعل مقدّماً، فهي موجودة من قبل كشرط لتواجدنا”، وبردياييف نفسه لا يجهل ما في هذه اللغة من جذور ميتافيزيقيّة، لذلك يحاول أن يكون أكثر وضوحاً حين يرى الحريّة سابقة على عالم الظواهر وأنها “إمكان” أكثر منها “فعلاً” “فلا يمكن للفكر أن يمسك بها، لكنه يعرفها فقط من خلال ممارسة الحريّة”.

البير كامو

 

والغوص في نظريّة الحريّة يوصلنا إلى اتجاهات الرأي البالغة التشعب حول هذا “المدلول”، وهو ما يجب تفاديه لأن الأوجب في مبتغانا، والذي يحملنا أحياناً على شيء من الإسهاب لمزيد من الإحاطة – هو عدم التهاون بما دأب الوجوديون على تعظيمه، قصدنا شأن “الحريّة” فهي الأول والآخر ونقطة البدء والغاية كما يعلن بردياييف، ويؤيّده سائر فلاسفة الوجود، كلّ بأسلوبه.

مارتن هيدغر

 

  1. هيدغر: الحريّة اختيار للممكن 

فوجود الإنسان في العالم مصحوب في نظر “هيدغر” بالتزام ومسؤولية ناتجين عن “الإختيار الحرّ للإمكانيات التي نحتتها” فأهميّة الحريّة في اعتبارها اختياراً لما هو ممكن، فهي ليست مطلقة، ولكنها بدونها لا تكون “الأنية” سيدة وجودها، وأن كانت هذه السيادة تعرضها لما يقتضيه الإختيار من إحساس بالقلق يجب أن لا نغفل أن الإحساس بالقلق هو أعلى مراتب الوجود الذاتي الحق.

وإذا صاحبنا “كارل يسبرز” في الخط الأساسي لفلسفته الوجوديّة، لمسنا مدى احتفاله بـ”الحريّة” عندما نعلم أن البحث في “الحريّة” هو أحد المسائل الكبرى في تاريخ الفلسفة العام وفي فلسفته بالذات. فالحريّة هي جوهر الوجود الماهوي، الذي ليس شيئاً سوى تحقّق الذاتيّة الفردية من خلال “الديالكتيك” الدائم والمستمر في توتره بين المواقف النهائية كالألم والخطيئة والنضال والميلاد، وبين الحرية، للتحرّر من آثار الضرورة التي تفرضها المواقف النهائية. فالكائن لا يختزن إمكان الوجود إلى تحقيق الوجود إلاّ بالعلو على ذاته أي بالخروج من الحال الأولى إلى الثانية ناشيء من إرادتي للحريّة. فهي نابعة من داخل الذات، ولا تحتاج إلى برهان لكي تثبت ذاتها، فهي حاصل قرار الفعل الوجودي، فحين يقرّر الكائن البشري بوجوديّته أن يكون حرّاً، يكون حراً.

جوزيه أورتيغا غاسيه

 

  1.  اورتيغا: الحريّة هي قوّة الإبداع

ونظراً لخطورة ما تناوله “خوسيه اورتيغا” (Jose Ortegay Gasset) فيلسوف الوجوديّة الإسباني من قضايا تعبّر عن مواقف جديّة من حضارة الإنساس الحالية المتداعية، فنحن نتطرّق إلى الحريّة عنده في إلتحامها العضوي بالفعل الوجودي الذي يميّز بين الأجيال الهرمة التي شاخت، والأجيال الشابّة أو الثوريّة التي لا شيء أدلّ على سموّ إرادتها الحرّة من نبذها للماضي الخلق البالي وابتداعها الجديد، وممارسة قوّة الإبداع بأقصى درجاتها. فالأجيال التي لا تستجيب لنداء الحريّة الكامن في أعماقها تعجز عن اداء رسالتها وتخفق في تحديد مصيرها، متخليّة عن المكانة التاريخيّة المنوطة بها.

مبغيل دي أونامونو

 

  1.  أونامونو: الحريّة هي التجدّد الخلاّق

هذه الشعلة الوجوديّة المضيئة والحارقة في آن معاً، لا يمكن إخفاء القها وجذوتها في آثار الوجود بين الكبار الآخرين، التي كثيراً ما تخلع عنها ثوب التعقيد الفلسفي لتلج عالم الواقع بمنطق بيّن وأغراض هادفة . وهذا ينطبق على مقالات “مبغيل دي أونامونو” (Miguel de Unamuno) الذي عاصر اورتيغا، ووجّه دور الفعل الوجودي الحرّ لتحرير كل مدنية قائمة من أسباب انهيارها وتعفنها، لخلق تيّار جديد يسعدنا بمدنية جديدة، هكذا يدعو أونامونو إلى هجر هذه التربة العتيقة التي حجّرت روحنا، لنحول المدنية إلى حضارة، ولنبحث عن جزر عذراء خاوية، حبلى بالمستقبل، وطاهرة طهارة صمت التاريخ، جزر الحرية، ابنة الطاقة الخلاّقة. . المتّجهة دائماً نحو المستقبل.

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *