جبر سليمان
د. جان توما
تعلّمتُ منه كيف يضع راحة يده على الجدران، يتبادل الكلام معها، يُنطقها، تردّ عليه بصمت ناطق، فيلاقيها بعلب الألوان، يسحب ريشته، يرمي أقواس قزحه على معجونة الحيطان، يخربش ما اختبره من صنعة يدويّة توارثها، فأتقنها وكان لها تهجئة، وكانت له حيّة، ووجهًا واحدًا، ولو كانت وجوهًا بألف لون ولون.
راح المعلّم جبر سليمان. أخذ معه حرفَته المتقنة، ومعرفته بأسماء الحجارة وأنواعها، وما يلائمها من ألوان. لعلّه أخذ معرفة سحر الحيطان الناطقة بصمتها من أدراج قبة النصر لقلاوون المملوكي وجدرانها العتيقة، وصولا إلى الزاهرية أو منطقة الظاهر بيبرس، الغارقة في تاريخيتها ودفاترها الأثريّة.
يأتي المعلّم جبر من هذا التراث الذي عرفه وعاينه منذ طفولته في الربع الثاني من القرن العشرين. لم تتغيّر الجدران من يومها، ولم تتبدّل أحوالها. ما زال ماء الشتاء يتسرّب إلى داخل ما بقي من بيوت متهدّمة وما يطلع من الحجارة الرمليّة. يعرف المعلّم جبر حكايات الأحياء في طرابلس، وهندسات بيوتها، وقد تحسّس أبوابها الخشبيّة، وتلمّس حجارتها ليرسم دهنًا بالألوان شالًا يرميه على أكتافها لتكون الحياة في هذه البيوت بارقة أمل، ترفرف على قوس قزح مضى إليه، لينعم بالنور البهيّ الذي كان إليه في مسرى حياته لطفًا ووفاء ومحبة لعارفيه.