رموز الميت الحي في الرواية
صالح الرزوق
(سوريا)
تعود فكرة الميت الحي في الرواية لعدة نسخ وعدة أشكال، لكن أشهرها هي شخصية فرانكنشتاين Frankenshtein لماري شيللي والتي صدرت بطبعتها الأولى عام 1818، ودخلت مباشرة على خط الصراع التقليدي الرومنسي بين مشكلة المعرفة والإيمان. وتنفرد ريبيكا روث غولد بالنظر لفرانكنشتاين على أنه مخلوق حلت عليه اللعنة لأنه تحدى قوانين الطبيعة. وتعتقد أن أصل هذه الفكرة موجودة في التراجيديا الإغريقية (انظر مقالتها: ماري شيللي والخلق/ورقة عمل قيد النشر). بمعنى أن رومنسيات شيللي هي رواسب من أساسيات الفكر الكلاسيكي. ولا يصعب علي تصور هذه المتناقضات، فهو إنسان هجين، يبحث عن حريته، من خلال تحقيق وإنجاز الطبيعة البشرية المقررة أو المسقطة علينا، والمفروضة فرضا. وبمثل هذا الجو لا يمكن للثورة الرومنسية أن تهرب من محددات وافتراضات العقل الكلاسيكي. ومن المؤكد أن شيللي لم تقترب من الموضوع السياسي لعصرها، ولذلك بقيت بعيدة عن أي مباشرة اجتماعية، وركزت كل كلامها حول مجموعة ثنائيات أو تقابلات لتطوير الحبكة، ومنها عدم قدرة الإنسان على الحياة بمفرده وضرورة خلق قنوات للتواصل: إنسانية عامة (أن تكون وسط بيئة حاضنة) وبشرية خاصة (أسرة من امرأة ورجل وأطفال). وقد عادت لهذه الفكرة في قصتها “الخالد الميت/1833”. وهي عبارة عن حكاية شاب يتناول بالصدفة إكسير الحياة الأبدية، ويعيش حياة طويلة ملؤها الشقاء، ويكون خلالها شاهدا على غدر الطبيعة ومرارة الفراق. وكان هذا، أصلا، هو السبب الأساسي لتمرد المخلوق المرعب على صانعه الدكتور فكتور فرانكنشتاين. بالمناسبة الاسم يعود لطبيب جراح اهتم بمشكلة البعث والنشور وبحث عن أسرار الخلود (على طريقة البطل الملحمي الرافديني جلجامش).
لاحقا ظهرت من العمل نسخ معدلة آخرها فرانكيستاين Frankissstein لجانيت ونترسون Jeanette Winterson، وبها جعلت من المخلوق – المعجزة نافذة ننظر منها على مجتمع ما بعد – بعد الحداثة. فقد اختارت، عدا عن تحطيم الشكل التقليدي للحبكة، والتعبير عن الوجود من خلال الفراغ أو بواسطة تحريض وتنشيط عمل الذاكرة، حبكة غرامية طرفاها ماري المرأة التي تحول نفسها لرجل، وستاين الخبير بالذكاء الصناعي، والذي ينقل دماغ البشر ويزرعه في روبوتات. ومن خلال هذه المحاور تسلط ونترسون الضوء على مشكلة طالما أرقت مجتمع ما بعد الاستعمار، وهي عدم وجود أمة من عرق واحد. ووسعت الموضوع ليشمل أيضا الوضع الوجودي للبشرية بشكل عام، ولا سيما الجنس الثالث (لا هو ذكر ولا هو أنثى / العقل الجنسي وليس الغريزة الجنسية – أو التفكير الجنسي وراء حدود القدر والمشيئة الإلهية). ثم انتقلت لموضوع الكائن الإنساني وليس المخلوق البشري (وهو ما يعرف في الفلسفة باسم السايبورغ cyborg – كلمة منحوتة من سيبرنطيقا وأعضاء حية). وبهذه الطريقة ابتعدت عن المسار السياسي لقضايا التحرر ورفع الوصاية عن الشعوب إلى المسار الوجودي الذي يهتم بموضع الإنسان من عقله، ودوره في تحديد مصيره. بتعبير آخر لقد نقلت اهتماماتها من التطور التاريخي للشعوب إلى التطور الحضاري للأفراد. وأعادت الاعتبار للبروليتاريا الفكرية أو الكد العقلي على حساب الكد العضلي.
وباعتقادي إن جانيت ونترسون لا تؤسس حبكتها على دراما أو صراع بين أضداد، ولكن على تقابل بين المعاني: التفسير اللاحق للدلالة يبني على التفسير السابق ويلغيه. وبهذا الشكل تنتقل الأحداث من مرحلة لمرحلة تالية. وينسحب ذلك على الشكل الفني أيضا، فهي من خلال نقض المفهوم الطبيعي لمعنى الرواية تؤسس لشكل يتركب من طبقتين: ذاكرة جديدة وصور قديمة. وهو نفس الأسلوب الذي اتبعته في “البرتقال ليس الفاكهة الوحيدة” وفي “الغرام”. ويمكن أن تقول إنها تلغي نفسها لتحقق لأفكارها فضاء مستقلا. لقد اتكلت في كل مشوارها الفني على حياتها النفسية والانحرافات عن النطاق العام لقانون الأخلاق. وقد حرصت في روايتها “فرانكيستاين” أن تتعرف على الماضي بالنظر لانعكاس صورته على سطح الحاضر. ولذلك عمدت لتركيب حبكة تتقاطع بها ماري شيللي مع بطلتها المتخيلة ماري. لقد كان التقابل بين الحقيقة والخيال أو ذاكرة التاريخ وذاكرة الأشخاص. وبودي التذكير أن لماري تمثيلات متعددة في الرواية الغربية، وكلها تعمل على تطوير الجوانب الأسطورية من فكرة الحبل بلا دنس. ويدخل في ذلك الهوية الفنية لبنية الرواية. فهي لا تتطور من بنية سابقة، وإن أوهمتنا بذلك. والحقيقة أنها مثل شخصيات “فرانكيستاين”، ليست نقية وهجينة وبنيتها متفرعة ومطعمة، وتنسجم تماما مع العقل التوسعي للاستعمار الناعم المتشعب واللامركزي أو أقله العابر للحدود.
وربما لا أستثني من هذه الظاهرة غير رواية “اعتراف ماري The Testament of Mary” لكولم تويبين التي تعيد تفسير شخصية الأم بمعزل عن الابن وبغياب عجيب لشخصية الأب – أو الزوج. وإن كان بإمكاننا أن نجد في روايات ونترسون (ومعظم رموز جيلها) وحدة سرد مدمرة أو سائلة إن رواية تويبين تقدم وحدة سرد صلبة. وعلى هذا الأساس تكون أشباح روايات ونترسون من النوع الموضوعي وتندرج ضمن الثقافة العالمة. بينما أشباح تويبين نوستالجية وسلفية وتتمسك بالمعنى التقليدي لفكرة الرواية.
***
بالإضافة لشيللي ظهرت نسخة معدلة من الميت الحي، وهي “دراكولا” لبرام ستوكر التي صدرت عام 1897. وتتكلم عن مصاص دماء مشهور ينشط في الليل فقط. وهذه إشارة واضحة لدراما النور والظلام والصراع الأبدي بينهما كتمثيلات مباشرة عن فكرة الخير والشر. غير أن لدراكولا مضمونا طبقيا، فهو من شريحة النبلاء، الذين فقدوا هيبتهم بعد صعود الرأسمالية، وانتقال السلطة من امتلاك الأرض لامتلاك قيمة العمل. ومما يؤسف له أن تفكير ستوكر لم يكن يرقى لتحليل أزمة الرأسمالية في لحظة تكوينها، ولم يلاحظ الجانب الاستغلالي الذي عبر عن نفسه بالبحث عن مصادر الثروات في الخارج، وما تسبب به من ظواهر استعمارية. فقد توقف عند حدود الرأسمالية الجنسية – ونظر لها بشكل صور معدلة لبقايا الإقطاع الربوي، وجعل المرأة البسيطة والجميلة ضحية للكونت الميت. ويبدو أن ستوكر كان يحمل في داخله صدعا سياسيا، فقد مسخ مخلوقه الجبار، ملك الظلام، في طور لاحق، وصوره بشكل جيش من القوارض التي تعتاش على قاع المدينة وفي ظلام دامس، مثلما سيفعل كافكا بعد ذلك بغريغور سامسا ويمسخه لصرصار مقزز ومثير للشفقة.
لكن هذا الانحدار بدراكولا في سلم التطور تبعته طفرة، مثلتها شخصية زومبي الذي لا يكتفي بدم الضحية فقط بل يفترس كل شيء فيها. وأصبح زومبي رمزا لا يدل على فكرة موت شريحة وحسب، بل على نهاية عصر بكامله. وحاول هذا الميت المجهول والجماعي أن يفرض فلسفته على مجمع الأحياء دون أي شفقة أو رحمة. وبهذه الطريقة يكون زومبي الوريث الشرعي لما يسمى حركة الإحياء القوطي. بمعنى أنه ليس جزءا من أدب التشويق (المغامرات والمطاردات الليلية – كما في أشباح والتر سكوت وما يضاهيها)، بل هو تعبير عن مطامع الإمبريالية بالسيطرة والتوسع لدرجة الاستعباد.
وقد وصل إلى أدبنا العربي كولاج وظف كل هذه التمثيلات، وذلك في عمل استثنائي وجريء هو (فرانكنشتاين في بغداد) لأحمد السعداوي. وقد صدرت الرواية لأول مرة في بيروت عام 2013، وحصدت على الفور تقديرا منقطع النظير. واتفق سوق الرواية العربية والغرب على تتويجها بعدة جوائز لأنها بإجماع الآراء تمثل نقلة نوعية في أسلوب ومضمون رواية ما بعد الاستعمار. فقد كانت عملا وطنيا يبني على رموز من المخيلة الجماعية. واختار السعداوي لها إدارة حبكة مستديرة، وفيها تعهد الميت التراكمي (المصنوع من ترابط ضحايا مجهولين) بالانتقام من قاتليه.
وإلى جانب السعداوي ظهرت في أدبنا الحديث عدة أمثلة على هذه التحولات، منها شخصية المسخ والقزم والشهيد – الانتحاري الذي يستعذب الموت (بسبب انعدام الحرية أو الفقر الأسود). ومن هؤلاء: حارس الموتى لجورج يرق (2015)، وآخر من شبه لهم لأديب النحوي (1991)….
وهي أمثلة أخيولية، بمعنى أنها تتخيل الواقع وتبنيه على أساس الاحتمالات والممكن. ويغلب عليها نشاط تبشيري له عدة جوانب نضالية، دون التوقف عند حدود أحوال المجتمع بعمومياتها. وينفرد النحوي عن غيره بطريقة التفسير المقلوب، فالمأساة بالنسبة لفريق هي ملهاة للفريق الآخر. وبهذا الشكل يضفي على المتناهي صفات لا متناهية، ويمكن للميت أن يكون بنظر الطرف الآخر حيا. وينسحب ذلك على بقية المعرفات، وباعتبار أنه متخصص بالحالة الفلسطينية، بكل ما تتضمنه من عجائب ومفارقات، يوجد مجال واسع للاختلاف حول المفاهيم، فالاستعمار بنظر العرب هو تحرير بنظر الفكر الصهيوني. وبضوء هذه الإشكالية تتداخل الأطوار، ويصبح لكل طور معنى وضعي وآخر أسطوري له قوانينه. وبتعبير دايانا إيفانز (بعد تحويرات بسيطة): الواقع الحالي هو الأسطورة الغائبة ذاتها*. ويدخل في هذا الباب قصة حديثة هي (وتر في دائرة الليل) لصالح البياتي. وتبدو كأنها تنويع آخر على معزوفة الشهيد الحي، فالأب القتيل يحارب الضواري مع ابنه. وهي ترقية للتفكير المادي بمثاليات رموزية تربط الواقع بتراثه الروحي على اعتبار أن الصورة هي التي تموت وتترك التصورات وراءها. وباعتقادي إن القصة في هذا المجال تستفيد من الذاكرة الرمزية للوعي الذي يعقل نفسه، تمهيدا لتحقيق اندماج بنيوي بين الماهيات (المعرفة والإدراك). بتعبير آخر الروح تدخل مجال الوعي. بعكس نموذج مصاص الدماء الذي يفصل بين العناصر، ويختصر كل عنصر بمفرده لماهية كاملة مثل الليل الذي يعتمد على المعرفة بواسطة التكهن، والنهار الذي يعتمد على الإدراك بواسطة الحواس. ولا ضرورة للتذكير أن الشهيد الحي ميتافيزيقا إنتاج (فهي تضحية وعطاء)، في حين أن مصاص الدماء وزومبي كائنات رمية تستهلك (تشرب وتقرض من دم ولحم الأحياء). ولذلك يختص الشهيد الميت بفكرة المقاومة، بينما تختص بقية الكائنات بالسلوك الاستعماري.
وهناك أيضا رواية (شيء ما في المستنقع) لقصي الشيخ عسكر (صدرت في دمشق عام 1991)، وتدور فكرتها حول شاب يكتشف في أحد المستنقعات أجزاء من جثة ميت. وتبين له لاحقا أنها جثته. وغني عن القول إن الحبكة وجودية، فهي تفترض أن الحياة راكدة كمياه المستنقعات، ولا شيء جديد، والإنسان تحول لشيء في مجتمع مجرم وبارد ويفتقد للعواطف الإنسانية. ولا تجد في الرواية فرقا يذكر بين المدينة والمستنقع. كان كلاهما كناية أو مجازا عن حالة موت سريري. وتتطور هذه الحبكة لاتهام الشاب بالجنون، ومحاكمته، ثم هروبه مستغلا اندلاع حريق هائل يحاصر المدينة. وأكثر ما لفت انتباهي في الأحداث أنها بعيدة عن فكرة فرانكنشتاين الأساسية لسببين:
1- أن الميت غير مرشح للعودة للحياة.
2- وأن الشاب لا ينوي على الانتقام. بالعكس حاول تحذير أبناء مدينته من عواقب الإهمال، وذلك بلغة نبوئية وبخطاب تبشيري يذكرنا بحالة “نبي” جبران في عمله التنويري المبكر، مع لمحات إضافية من (إنجيل الابن) لنورمان ميلر و(جدار الموت) لسارتر. ويمكن أن تقول إن بطل هذه الرواية نسخة ضعيفة من مسيح أناني لا يؤمن بدور التضحية في التطهير. ويدعم هذا الافتراض عدة لمسات تقريبية. فالابن لا يعرف أباه، ويعيش مع أمه الشبيهة بأيقونات العذراء التي لا يخلو منها جدار كنيسة. وحسب الرواية هي دائما حزينة وساهمة، ولا تبدل اتجاه نظراتها، وكأن الرواية أرادت أن تجعل منها كائنا فوق الواقع.
وغني عن القول إنه لا يمكن إثبات أي علاقة بين رواية الشيخ عسكر ونص شيللي أو السعداوي (ناهيك عن نسخة ونترسون). فقد كان فرانكنشتاين صنيعة العقل البشري (الوعي أو العلم في حالة شيلي – والوعي الباطن في حالة السعداوي). وهو إعادة تدوير لمبدأ تنويري يعود للقرن التاسع عشر ومضمونه: لا شيء يأتي من الفراغ، ولا شيء ينتهي للعدم، بل هناك أفكار تغذي التمثيلات، وهي الطبيعة البشرية (الطبع الذي يغلب التطبع عند شيللي) والهوية الوطنية (المضمون الحضاري للمجتمع عند السعداوي).
وقد ذهب السعداوي لما هو أبعد من ذلك حينما وضع للعنف في روايته هدفا نبيلا. وهو انتقام جماعة الضعفاء من واحد أقوى منهم. فمخلوقه من ضحايا المفخخات، وبينهم الفقير والغني، والعبد والسيد، والمؤمن والكافر، واجتمعوا على إرادة واحدة وهي تحرير أنفسهم من قيود المدينة الفاسدة أو الدايستوبيا. وبدواعي الإنصاف يجب أن نعترف أن السعداوي حرر فرانكنشتاين من أفكار شيللي الجاهزة، ووضعه بسياق مبتكر وهو تحرير الإنسان والأرض بنفس الوقت. ولكن ليس هذا مبدأ رواية (شيء ما..). فقد تحركت ضمن إطار واحد بدأ من السأم الوجودي وانتهى به. وكانت الرموز واضحة ومباشرة وبلا تمثيلات. فالمستنقع، مثلا، هو طوفان الأخطاء، وسطحه مجرد فاصل رقيق بين الوعي الباطن (لغة الأعماق – الأموات المغمورين بماضيهم ورذائلهم)، والسطح العاكس الذي ترتسم عليه الصور المشوهة كأنها صورة دوريان غراي بطل أوسكار وايلد، المعيار المنظور لمقدار الرذائل التي نرتكبها. ناهيك أن الماء الراكد يدل على أمرين اثنين.
الأول هو كساد الحياة. فقد ترافق صدور الرواية مع فترة كساد مجتمعاني كبير (يعادل الكساد الذي ضرب أمريكا في الخمسينات). وكنا آنذاك نمر بمرحلة مجتمع ما بعد النكسة وظروف أوسلو (التي تم التوقيع عليها عام 1993) ودخول حركة التحرر العربية بموت سريري.
الثاني هو انتشار التفسيرات الذاتية للظواهر على حساب التأويل الموضوعي. وبلغة علمية كان وعي البطل في الرواية طفوليا يشبه تعرفه على ذاته من خارجها وهو ينظر لصفحة المرآة (حسب بارادايم لاكان). وحتى لا نحمل الرواية أكثر مما تحتمل أستطيع القول إنها شهادة إنسان أعزل عن فترة مضطربة وحزينة من حياة المنطقة. ولكن هذا لا يعفينا من الإشادة بطموحها الفني، فقد سبق للمرحوم يوسف سامي اليوسف أن اعتبر أنها عمل طليعي تعاقب فيه نوعان: فصل سرد – وفصل حوار وبالتبادل. وكأنها مسرواية (فن هجين من تداخل المسرح مع السرد). وأغتنم هذه الفرصة لأذكر السبق الفني الذي أنجزته رواية ماري شيللي. فهي أول رواية فنية بتكنيك الأصوات، وقد تناوب فيها على السرد:
1- شهادة فكتور فرانكنشتاين.
2- وجهة نظر المخلوق المرعب.
3- وأخيرا رسائل القبطان لأخته، وجاءت أشبه بتفسير للفراغات المبهمة التي تخللت الأحداث.
ولم يكن التنقل بين هذه الوحدات السردية ميكانيكيا (مع أنه عيب فني لم ينج منه حتى نجيب محفوظ معجزة الرواية العربية سواء في “ميرامار” أو “المرايا” حيث كانت الأصوات تتراكم ولا تتطور وتأتي بسياق واحد بسيط وغير مركب). لقد عرفت ماري شيللي كيف تربط وتفصل الأصوات، وكيف توزع حصة كل صوت على الحبكة. وباعتقادي إن قصي الشيخ عسكر كان يفكر بدايستوبيا وهو يكتب روايته. لكنه استعان بعدة صور أحفورية من الذاكرة الأسطورية للمنطقة.
أولا المستنقع فهو بقايا الفضيان الذي لا يخلو منه كتاب مقدس أو أسطورة شرقية.
ثانيا الزورق وهو برأيي رمز لسفينة نوح.
ثالثا وهي أهم نقطة أنه مركب صغير. واختار الشاب أن يحمل معه أمه لا أباه. ولكن تبين أنه لا يكفي إلا لشخص واحد، فهرب بالنهاية بمفرده. ولا شيء يمكنه تفسير هذه الحبكة غير عقدة أوديب مع تبديل في الرموز والأدوار. وعموما الإبدال شيء أساسي في هذه الرواية، فالابن الحي أخذ دور الأب الميت أحيانا، والأم كانت ذات وجهين: طيبة وشريرة (وبالتناوب – حسب قانون اللحظة – بتسلسل يختلف عن قانون البنية الثابتة). وبمثل هذا المنطق وظفت الرواية تكنيك الصور عوضا عن أسلوب الأصوات لتغطية الأحداث من عدة زوايا. وأعتقد أن هذا فرق جوهري آخر بينها وبين الأسلوب الراديكالي لنسخة شيللي والسعداوي. فقد لجأ الاثنان لبناء شخصيات بذاكرة قوية وواضحة، ودون أي تصور عن نهاياتهم. بينما قدم لنا قصي الشيخ عسكر أبطاله دون ذاكرة، وكان يغلب عليهم الالتباس والشك. وهي حالة مفهومة وعامة إذا وضعنا بعين اعتبارنا وضعنا الوجودي. فتطور كل بلدان العالم الثالث يخيم عليه مظلة عريضة وواسعة من القلق والتحير. لا أنت تجد مغزى واضح لحياتك، ولا تستطيع أن تفصل الحياة الخامدة عن الموت العضوي. وفي الذهن عدة أمثلة عن هذا البؤس الاجتماعي، ومنها رواية “كانكان العوام الذي مات مرتين” 1959 للبرازيلي خورخي أمادو. و”فسوق” 2005 للسعودي عبده خال.
لقد قدم العملان شخصية مركبة تجاورت فيها الغيبوبة الذهنية مع التعطيل المجتمعاني. ولتبدو الشخصيات طبيعية أو يمكن تصورها عمد الاثنان للتلاعب بالواقع، إما أن تكون الشخصيات غير منتمية له وترفضه (وهذا حال عبده خال – لا سيما ببطله محمود – المجاهد العائد من أفغانستان). أو أنها مندمجة برغباتها ومنفصلة عن شروط الحياة المادية (وهو حال بحارة أمادو).
غير أن الكاتبين لم يسلطا سيف الحرابة الاجتماعية، وعطلا صراع الطبقات، ولا يخفى على أحد ما لهذه التقنية من مغزى فني أو حكمة ذهنية. فالتساوي بين الطبقات، وتحويل الإنسان لمجرد امتداد للطبيعة يحصر العداء بين أنواع أو متباينات: عاقل من طرف وجماد من طرف آخر. والجماد هو التقاليد (عند عبده خال) وعدو البشرية (عند أمادو).
وفي الحالتين كانت الغرائز تحكم، لكنها غريزة عمياء وضرورية في رواية خال، وغريزة احتفالية تدل على الاندماج والتوحيد في رواية أمادو. بتعبير آخر نظر كل من الاثنين من زاويته لمعنى الحياة. فهي علاقات ومكاسب وثقافة في رواية “فسوق”، وارتباطات لوعي طبيعاني مع مبدأ الحياة في رواية “كانكان”.
تدور حبكة “فسوق” حول بنت قتيلة بجريمة شرف، ولكنها تهرب بعد الدفن من قبرها، بمعنى أن الموت المؤكد لا يضع حدا للشك باحتمال استمرارية حياة الضحية، إن ليس فيزيائيا على الأقل من خلال إحياء سيرة ماضيها. وباستطراد بسيط إن عبده خال يتحدى إرادة تغييب عاطفة البشر بفرض وجود وهمي وغير مادي لها، أو ما يمكن أن تسميه مع دريدا بتوقيع الكائن البشري أو أثره. وجدير بالذكر أنه يوجد وراء هذه الرؤية طباق معنوي ودلالي.
أولا قدرة الميتة على تحريك ثوابت وسواكن المجتمع الراكد.
ثانيا تأزيم أفراد المجتمع بشكل نسخ مكررة من زومبي أو ميت حي موتور ولا يحترم الصداقة ولا الضوابط الاجتماعية. بمعنى أن الأفعال الشرطية هي التي تعمل، بينما القدرات والمؤهلات غير المشروطة تسقط في حالة تعطيل.
ثالثا تراجع الحالة الاجتماعية لتمثيلات أفلاطون عن النفس الحركية، وهي أحط أنواع الإدراكات والموجودات.
والحقيقة أن هذا الطباق هو مغزى الرواية. فالمدينة تشبه ثكنة لها أسوار – أو دايستوبيا كل شيء فيها ممنوع، وكانت بحاجة لحادث مثل مقتل ثم هروب جليلة – اسم الميتة لتنتبه للحفرة الفارغة الموجودة في تكوينها. وما يضاعف من الإحساس بالفجوة هو خيارات أبطال الرواية. فهم شخصيات تعيش على حدود الواقع وداخل فضاء وهمي لا يمكنك أن تتحقق منه. وقد صالح بين الطرفين في الخاتمة حينما جمع بين الحي والميت من خلال غرام محرم وهو جماع الأموات (نيكروفيليا). ففي النهاية لم تهرب جليلة، بل يثبت سرقة حارس المقبرة لجثتها. وربما لا توجد في ذهني حالة مماثلة سوى قصة لفوكنر بعنوان “زهرة إلى إميلي”. وهي عن حكاية امرأة تحتفظ بزوجها حتى بعد وفاته. ولكن من المؤكد أن حبكة فوكنر عشقية (تحول الليبيدو لقوة تتحدى سلطة الموت)، في حين أن حبكة خال أوديبية (بمعنى أنها تضع الحياة بخدمة القدر وليس العكس – فالابن الرمزي لا يتخلى عن تمثيلات أمه العظيمة). للأسف لم يكن عبده خال جاهزا ليشاهد مدينة جدة الحديثة. لا التكنولوجيا الاستعمارية المستوردة، ولا إرادة المجتمع بعد الكولونيالي. فالحواضر السعودية هي أطلال للتكنولوجيا، ولا بد لكل زائر من أن يلاحظ الماكيت الباطني أو حبكة التوازي مع الميتروبول. وهذا يجعل من المقاومة شكلا من أشكال المحاكاة أو التنوير بالاستنساخ. وهي معضلة بعد استعمارية لأن الصور مستأنسة لكن العقل غريب ويستعصي عليه الاندماج.
وبهذه الطريقة تحولت المدينة لدايستوبيا حائرة تتأرجح بين عدة خيارات: تخطيط المدينة وفق فلسفة الثياب الجاهزة – التصورات المستوردة، أو ردم الذاكرة بواسطة ذكرى حجاب – التطور المعكوس. وأخيرا بالاعتداء على نظام الأب – وضمنا اللغة والتقاليد والشروط الوضعية. وهو نفس المنطق الذي ضرب مدينة بيروت وحولها من سوق دولي لخرابة عالمية. لقد جعلت روايات الحرب الأهلية مدينة مفتوحة مثل بيروت لمقبرة للبضائع المعطوبة ولمفاسد وخطايا الحضارات، وأصبحت ممرا لتجار السلاح والرقيق الأبيض. فهل كانت جدة بحالة اشتباك؟. لا أشك لحظة واحدة بذلك، فقد كانت مكانا ميتا في فترة معلبة من تاريخ خلافي وانتهى وقت صلاحيته. وقد فرضت على نفسها حصارا مضاعفا: بالقطيعة والجمود. وهي لم تكن تقاطع البضائع الاستعمارية ولكن فكرة الحضارة. وكانت أدوات النحر ألسنية (بالتوهم والخيال السلبي). بمعنى أنها أدوات قتل ساكنة ورمزية. وبوجيز العبارة كان مجتمع الأحياء في “فسوق” يعيش داخل مدينة ميتة.
وهذا يضعنا فورا أمام “كانكان” أمادو. فقد كان إنسانا ميتا داخل مجتمع حي. لأن الحبكة كانت عن بحار ميت يشارك زملاءه الأحياء السهر والعربدة. وهكذا يتساوى الاثنان بواسطة تحويل الواقع إلى كرنفال أو إلى تعبير هائج عن مبدأ الحركة والديمومة. لقد كان أمادو مؤمنا بالنمط، وبالنسبة له موت شخص لا يعني نهاية النموذج، فالحياة جماعية ورمزية وبالضرورة غير متناهية. وهكذا يمكن للأثر في حالة عبده خال وللنمط في حالة أمادو أن يضعا حدا للسلطة القهرية التي يمثلها الموت في الحضارات الجريحة.
ومع أنه لا يوجد خلاف أساسي بفلسفة هذين العملين، هناك خلاف منهجي واضح ومؤسس لفكرة فوق فنية. فعبده خال (وهذا ديدنه في كل أعماله) يضع الواقع فوق الإنسان. بتعبير آخر يدين الواقع والمجتمع ويرد التناقضات للوضع البشري الذي يفاقم من وزر وأخطاء الأفراد. بينما يساوي أمادو بين الطرفين، فالطبيعة الإنسانية بالنسبة له جزء لا يتجزأ من المشهد الطبيعي. وفي هذا الجو لا يوجد أي تناقض لا بين الفكرة والفعل، ولا بين الرغبة والحياة. ولذلك إن التوتر الناجم عن طريقة فهمنا لمعنى الخطيئة وطرق الحساب (الرقابة والعقاب بتعبير فوكو في روايات خال)، يتحول في أعمال خورخي أمادو لبهجة عملية تدمر كل عائق يقف أمامها بما فيه عائق الموت. ومثل هذا الاختلاف هو الذي يفرض على رواية “فسوق” بنية جزئية (تتركب من سوالف – بتعبير أحد النقاد)، وعلى رواية “كانكان” بنية جوهر واحد تقترب من الفهم الباطني لجوهر الطبيعة والوجود باعتبار أنهما فضاء إشكالي متداخل (أو فسحة مضيئة بلغة سامي أدهم). وبهذا المنطق يكون الوعي المتخلف أشبه بجولة في بيت الرعب (في مدينة الملاهي – حيث أنك ترى الظلام وتأنس له)، بينما الوعي الباطن يكون تعبيرا عن الحرية المحدودة التي تتهرب من شقاء الإدراك والمعرفة بنفس الوقت. وهكذا تصبح البنية بديلا عن الطبقة في تفسير اختناقات الواقع وأساليب مقاومته. وإذا كانت البنية تستثمر أدوات بصرية (وهو ما يمكن ملاحظته في أهم عمل لعبده خال: وترمي بشرر، 2009). فالرواية تصور تناحر مجتمع تحفة معمارية منطوية على نفسها – قصر منيع – مع حارة تتكون من متاهات متشابكة، إن الطبقة تستثمر عائدات فهمنا للواقع وللرأسمال الرأسمالي الذي ينجم عنه. أو بتعبير أوضح: إذا كانت البنية ترى فإن الطبقة تشعر وتفسر.
في النهاية لا بد من الإشارة لعدة ملاحظات.
أولا. لا تخلو النزعات الفنية من معنى اجتماعي، طبقي أو بريء من التفكير الكلاسيكي للدراما الاجتماعية. فالواقع الذي ينتج مثل هذه التمثيلات تحدوه دائما دوافع فوق واقعية. والمسألة تشبه برأيي التناقض الداخلي بين الشيء وذاته، مثل نقض ما بعد الحداثة بما وراء الحداثة (المعروفة غالبا باسم ما بعد – بعد الحداثة). ولنأخذ “مسخ” كافكا على سبيل المثال. ألم يمهد له أحدب نوتردام وتحولات أوفيد؟؟. وبكل سهولة يمكنني أن ألاحظ وجود حبر سري (أو أفكار دفينة) تحت النص، وهو شيء مختلف عن التناص وإشكالياته وتفريعاته، فالجوانب الصامتة من العمل التخيلي لا يعني أنها غير موجودة.
وإذا لم يكن لدى ماري شيلي ميول تاريخية في تفسير شخصياتها، هذا لا يلغي أن اتجاهها الفني لم يكن ردا على إحدى شرائح وطبقات الكدح الثقافي والذهني. والحقيقة إن الظواهر الظلامية في كل من “دراكولا” و”فرانكنشتاين” لا تتضمن نفس القوة الرمزية أو المعنى الدلالي. فالوعي الأسود عند شيلي طبيعي، وهو جزء من العقلية اللاهوتية للبشر والطبيعة معا، لكنه يأخذ شكل رعب أسود عند ستوكر. والمرعب محدد وتمكنك مواجهته (لأنه يتضمن أدوات مقاومة تنتج عنه وتعارضه – تدمره)، لكن الوعي لا فكاك منه. قد يتطور لكنه لا يحمل أي معنى بالإلزام ولا النفي. وعليه أجد في “دراكولا” صورة رمزية، وفي “فرانكنشتاين” تمثيلات رمزية. ويدل ذلك على دوافع لديها نظرة مختلفة للأحداث. فقد ظهرت صورة فرانكنشتاين بوقت مبكر حينما كان العلم يشك بالدين، لكن دراكولا تأخر عنه ما يزيد على 90 عاما حينما كانت الدولة تشك بالعلم والدين معا. وغني عن الذكر أن السلطات كانت تحسب حساب الكنيسة والجامعة بعد تطور الثورة الصناعية ونشوء الطبقات وتشكل نمط المثقف الوضعي مقابل المثقف العضوي.
ثانيا. تكرار الأفكار والصور لم يكن كافيا ليعفي الرواية من تبديل الأساليب والموضوعات. حتى أن مفهوم السعادة وعلاقته بالعاطفة والقلب تبدل على نحو دراماتيكي. ومع أن “فرانكنشتاين” شيلي عاد للظهور عند جانيت ونترسون، ومع أن المعاني والأهداف لزمت مكانها (كانت متطابقة لدرجة تقمص وتناسخ – كانت ونترسون مثل شيلي تستعمل المعاني الملغومة – وشكل الواقع النفسي للشخصيات وليس الواقع البصري. فالعملان استعملا أسلوبا تجزيئيا)، لجأت ونترسون للضغط بكل إمكانياتها لإلغاء قناعاتنا الميتافزيقية عن الخلق، ولم تباشره على أساس أنه جوهر متكامل لوحدة قابلة للتطور، وإنما على أساس أنه تكوين تكافلي. والتكافل ليس بالوعي التغذوي أو الصحي، وإنما من خلال منظومة تكامل الإدراكات. وهذا ما تستطيع أن تفهمه من العلاقة الغرامية بين مهندس الذكاء الصناعي وماري (المرأة التي تتحول لرجل). وإذا كانت شيلي مهتمة بتحويل الميت إلى كائن حي، فماري ونترسون اهتمت بتحويل طبيعة حية لطبيعة حية مكملة لها. بتعبير آخر إن موقفها الأساسي ينضوي على شيء من التمرد على المبدأ الساكن أو الحقبة السابقة.
ثالثا. كانت الأمثلة العربية بكل أسف وحزن تخلو من الذاكرة العربية مع أن ذاكرتنا غنية بمثل هذه المخلوقات (الهجينة والمركبة – إنسان مجنح، أسد له وجه بشر، إنسان مسكون بالشياطين). وحتى بالنسبة لمثال أديب النحوي الذي لعب بفكرة تخليد الشهداء (عناد الأموات) فقد لجأ لطريقة وفلسفة المرآة، أو ما نوهت له في عدة مرات باسم “المرايا المتقابلة”. ويمكن أن أضيف فكرة “الإكثار والتناسخ”. فقد كان الميت العائد يظهر بنسخ كثيرة كأنه خلية تنقسم وتعيد دورة الحياة، وهي فكرة غربية تماما بدأت من سومرست موم في (الساحر – رواية خيال علمي) وتطورت مع تقدم علوم زراعة الأنسجة وطفل الأنابيب.
رابعا وأخيرا. حرصت الأمثلة العربية أن تعبر عن مضمون سياسي أو وطني، بينما ألزمت الرواية الغربية نفسها بالمضمون الحضاري. ومقاربة الأسلوبين لمعنى الثورة كان نضاليا (ولو بشكل احتجاج أفراد) في الروايات العربية (كما في مثال قصي الشيخ عسكر)، بينما كان هدف الرواية الأوروبية هو هدم بنية الميتافيزيقا تمهيدا لتثوير موقفنا من مستقبل العالم، وهو على الأرجح عالم لا يخضع لمشيئة الآلهة، انسجاما مع المفاهيم الجديدة للدين، والتي تنظر لكل إنسان على أنه إله نفسه. ومن رواية ونترسون (بالتوازي مع أعمال لجيلها مثل كيرت فونيغات، كريستينا ستيد، سلمان رشدي) يمكن أن تستدل أن الإله لا يزيد على أم ميتافيزيقية، وأن الخلق ذاته نوع من أنواع الحمل، فالإله كما يبدو في مجمل رواياتها هو رحم أم عظيمة لا أكثر. وأغرب ما في هذا الموضوع هو جاذبية الضد – أو الآخر. فـ ’وينترسون’، مثل الأسترالية ستيد، تجد حلا ضد ذاكرتها العرقية في المخيال الشعبي لذاكرة المشرق، في حين نحاول نحن دحر الذاكرة الاستعمارية بإعادة كتابتها أو تعريبها. وأنا حتى الآن أجد نفسي أمام كتلة من الروايات التي تثبت الضد ولا تلغيه. وهذا شيء مفهوم لو نظرنا موضوعيا لحركة التحرير العربية، فهي لحينه تعبر عن رموزها بخطاب ندين به للمستعمر وعقله التوسعي أو ثقافته العالمة.
بالنتيجة – لم تخرج الرواية العربية من علاقات مشروعة، وقد ولدت من حالة سفاح بين ثقافتين تقف وراء كل منهما حضارة لها خصوصياتها. ولذلك رأى غالي شكري أنها تطورت بظل مخاض يغلب عليه “العذاب” و”التألم”. وهذا هو حال الرواية الآسيوية القلقة، فهي بلا ثقافة غالبة، وبلا عرق مسيطر، وموزعة بين مكونات لا تفهم (وربما لا تعترف) بالآخر. ويكفي أنها لم تجد حتى هذه اللحظة أفضل تعبير عن اقتصادياتها اللغوية والنفسية. وحتى النموذج الصيني بدأ يدين لأمريكا اللاتينية بتفسير يشبه التردد الحضاري بين الأحادية في الجوهر والتعدد في الماهيات (كما تلاحظ من أسلوب باي في أو Bi Feiyu الذي يرتبط بخط ضعيف مع لو شين – فاللغة الزراعية تخترقها عقلية السوق من عدة جوانب – انظر روايته “ثلاث أخوات” – حيث أن الانتاج الزراعي يصب في النهاية لمصلحة الخدمات المحدودة وسريعة الذوبان). وخلف هذه الظاهرة يوجد تبادل وهجرة ثقافات (ليس مثاقفة ولا تناصا بل انزلاقات في لحظة ضعف حضاري بطريقة تشبه تبادل المنافع). لقد اقترضت أمريكا اللاتينية روح الحضارة الميتة وتصوراتها، وأعادت انتاجها بعد تحقيق قطيعة مع رصيدها الرمزي (أو بنيتها التحتية)، ولكن دخلت هذه الاختزالات للروح إلى الصين باسم “ذاكرة الشعوب” بتعبير آخر: إن ما قرأته أمريكا اللاتينية على أنه إضفاء طابع واقعي على رموز الحضارة النائمة، عاد لنفس هذه الحضارة ضمن إطار إنتاجي يساوي بين الإنسان والأرض. في حين أن روايتنا تخلت عن رصيدها بكل ممنونية، فقط لتضفي معنى حقيقيا على الوهم الذي نتعايش معه. وأكاد أقول إننا نكتب بلغة عربية عن موضوعات مفروضة، وتحت مؤثرات لا علاقة لنا بها. وصور الميت الحي لدينا تكاد تكون مغالاة بالتعبير عن البنية الرمزية لرواية القرن التاسع عشر، وهي تكابد مع التطور الصناعي والانقلابات الاجتماعية (كما في المساكين – لدستويفسكي، أو البؤساء لفكتور هيجو). إنها مكابدة إنسانية ضد أمراض الوضع البشري والشرط التاريخي لقانون العطالة. بعكس الرواية الغربية التي اختارت لهذه الرموز فلسفة “الشر النائم”، والذي أمكن تجميله وتخفيف عدوانيته وتأزمه باسم “الجمال النائم”. وكلاهما جزء من حراك حضاري ووعي معرفي ضد الركود والخمول.
***
*الاقتباس من روايتها Ordinary People. وهي رواية علاقات اجتماعية بين مهاجرين يعيشون في لندن 2018. (أصل العبارة: حضور العشيقة لا يغير شيئا بل هو تأكيد على مكان الزوجة الغائبة).