الصحافة البحرينيّة وصراع البدايات

Views: 710

غسّان الشهابي

مع غروب شمس العام 2019، تكون الصحافة في البحرين قد أتمّت عامها الثمانين منذ صدور صحيفتها الأولى (البحرين)، وهي رحلة ليست بالطويلة في تاريخ الصحافة العالَميّة، ولكنْ بالنسبة إلى بلدٍ صغير كالبحرين، فإنّ الصحافة واكبت الجزء الأهمّ من بناء الدولة الحديثة، وتفاعلت مع أحداثها، وأثّرت في الواقع المحلّي وأثْرته، وكانت المُتنفّس الذي استضاف كبار الأدباء والمُثقّفين المحليّين، وأيضاً مُلهِبةَ حماسِ الجماهير في اللّحظات المفصليّة المهمّة من عُمر الوطن.

صدرت أوّل صحيفة بحرينيّة (البحرين) في العام 1939، وكانت ترنو أن تكون صحيفة يوميّة بحسب ما ذُكر في تعريفها “جريدة يوميّة سياسيّة أدبيّة عِلميّة جامعة، تصدر مؤقّتاً كلَّ أسبوع”، ولكنّها بقيت أسبوعيّة إلى أن توقّفت. ومن اللّافت أنّها صدرت قبل ستّة أشهر من اندلاع الحرب العالَميّة الثانية، في الوقت الذي كانت أصداء الحرب تتصاعد، لذلك فإنّ التحليل القائل إنّ الجريدة صدرت من أجل مُسانَدة المجهود الحربي للحُلفاء هو تحليل ليس بالبعيد عن الصحّة، ولكنّه ليس التحليل الكامل. فشخصيّة عبد الله الزايد وخبرته وطموحه والأفكار التي كان يحملها وينشرها ومَواقفه الوطنيّة كلّها صبّت في أنّه كان الخيار الأفضل للتصريح له بإصدار الجريدة.

منذ صدورها، لاقت صحيفة “البحرين” ترحيباً من المثقّفين في البلد والمنطقة، ومع الأعداد الأولى صارت هي المُتنفَّس لمُثقّفي البحرين وأدبائها لنشْر إبداعاتهم. وأخذت تُعالِج القضايا المحليّة في الغالب الأعمّ من موضوعاتها. ولكنّ الصحيفة واجَهت صعوبات هائلة، فإلى جانب اندلاع الحرب العالَميّة الثانية، لاحقت صعوباتٌ ماليّة المؤسِّس عبد الله الزايد، ثمّ كانت أزمة شحّ الورق وغيرها من الأزمات، حتّى اضطّر – وهو الذي كان المُحرِّر الوحيد فيها – أن يقفلها في بداية العام 1944.

“صوت البحرين” المجلّة الأولى

عندما سكن غبار الحرب العالَميّة الثانية، وبدأت المياه تعود عالَميّاً إلى مجاريها، وبدأت الاقتصادات العالَميّة تستعيد بعضاً من عافيتها تدريجاً، بدأ المثقّفون يُراجعون أنفسهم في شأن إعادة التجربة وإصدار صحيفة أخرى على غرار “البحرين”. وقادت النزعة الأدبيّة التي كان يتحلّى بها مثقّفو البحرين إلى التصدّي لهذه المهمّة، فقاموا بتأسيس مجلّة “صوت البحرين” في العام 1950، التي احتوت موضوعاتٍ ومقالاتٍ متفرّقة في البداية، قبل أن تنحو في السنتَين الأخيرتَين من عمرها (وعمرها أربع سنوات فقط) منحىً إخباريّاً، وتُصبح تصادميّة أكثر وأكثر مع الاستعمار، وتُناصِر الخطّ القومي العروبي بشكلٍ واضح.

تضمَّنت المجلّة العديد من الموضوعات الأدبيّة، والمُساجلات والمُناظرات النقديّة بين الأدباء، ولقيت صدىً طيّباً على امتداد الوطن العربي، على الرّغم من صعوبة الوصول في ذلك الوقت إلى الكثير من مَنافذ البيع. إلّا أنّ ما خصَّ به عددٌ مهمّ من رجال الفكر هذه المجلّة من نِتاج أدبي وفكري، كان يشير إلى أنّ “صوت البحرين” كان لها مكان ومَكانة في الأوساط الثقافيّة العربيّة.

خمسينيّات التجارب الصحافيّة

مع صدور “صوت البحرين” وبعدها أيضاً، أي طيلة فترة الخمسينيّات من القرن العشرين، شهدت البحرين العديد من التجارب، وربّما المُغامرات الصحافيّة التي انطفأت بسرعة، وبعضها بشكل خاطف، حيث لم تُعمِّر الكثير من هذه الصحف كثيراً، فأقفل بعضها لأسبابٍ ماليّة، وبعضها الآخر لأسبابٍ سياسيّة.

إذا كانت “صوت البحرين” هي أوّل “مجلّة” في البحرين بعد صحيفة “البحرين”، التي هي أوّل صحيفة في الخليج العربي، فإنّ “الخميلة” سجَّلت سبقاً في ميدان يبدو بكراً؛ إذ إنّها أوّل صحيفة أدبيّة في الخليج العربي بأكمله. فهي مغامرة كبرى قام بها العراقي الأرمني كارنيك جورج ميناسيان، وهو أديب عراقي ومصوِّر فوتوغرافي، حطً في البحرين سنة 1952، وفكَّر بإصدار صحيفة أسبوعيّة أدبيّة، فكان له ما أراد إذ صدر العدد الأوّل من “الخميلة” في 29 تشرين الأوّل (أكتوبر) 1952.

صدرت المجلّة في السنة الثانية لصدور “صوت البحرين”، ويرجَّح أنّ هناك ما هو أبعد من مجرّد “مطبوعة أخرى” تصدر في هذا البلد. فلقد بدأ القلق يدبّ في أوصال المُستعمِر البريطاني في الوقت الذي بدأت ثورة 23 يوليو في مصر تأسر القلوب، وبدأت “صوت البحرين” تتخلّى شيئاً فشيئاً عن رسالتها بكونها “اجتماعيّة أدبيّة” كما أسمت نفسها، وصارت سياسيّة من حيث تدري أو لا تدري، وعلت نبرة انتقاداتها للمؤسّسات الرسميّة. وندعم هذا الترجيح بأنّ ميناسيان قد أصدر الصحيفة في العام نفسه الذي وصل فيه إلى البحرين (1952)، مع ما تحتاجه الصحف من تريّث وما يشبه دراسات الجدوى في ذلك الوقت، فكان الصدور أربع مرّات في الشهر مقابل مرّة واحدة لـ “صوت البحرين” ربّما كفيلاً بصرف الناس عن هذه الأخيرة.

حاوَل صاحب “الخميلة” مُسايَرة المدّ العاتي، وأَفسح في الصحيفة مكاناً للآراء المُعبِّرة عن الوضع آنذاك، ولكن دون جدوى، ما اضطرّه إلى دفنها ومواراتها التراب بعد أن أصدر المجتمع البحريني وقتها الحُكم بالموت عليها لأنّها “لم تُحدِّد مَوقفاً واضحاً من ثورة يوليو، ولم تُعلن تأييدها صراحة للثورة وزعمائها، كما أنّها تفضّل الأدب والفنّ على مُهاجَمة الاستعمار ونشْر أخبار ثورة يوليو” (عبد النبي الشعلة، “الخميلة في ملاذ المحبطين والطامحين”، صحيفة “البلاد” البحرينيّة، 13/10/2019). لذا رفع “الخواجة جورج”، كما كان يسمّيه بعض البحرينيّين آنذاك، في بداية العام 1956، الراية البيضاء أمام عبد الناصر مُعلناً نهاية تجربة أوّل صحيفة ثقافيّة في البحرين والمنطقة.

التجارب المُشترَكة والمُتفرّدة للمردي وسيّار

كان كلٌّ من محمود المردي (1924 – 1979) وعلي سيّار (1928 – 2019) من مؤسِّسي وكُتّاب مجلّة “صوت البحرين” التي شاءت الأقدار أن تتوقّف قبيل اندلاع الأحداث الطائفيّة التي أدّت إلى تكوين “هيئة الاتّحاد الوطني” في العام 1954. ومع ذلك، لم يشأ أيٌّ منهما أن يفوِّت فرصة أخرى لاحت أمامهما متمثّلة في إصدار صحيفة “القافلة” في العام 1952.

تقاطعت “القافلة” مع “صوت البحرين” لمدّة سنتَين، حيث كانت الأولى تسير على خطى الثانية في الشأن المحلّي والعربي العامّ، وتُناهِض معها الاستعمار، وتدعو إلى التحرُّر، ونبْذ الطائفيّة، ودعْم المرأة، واصطفّت مع الجسم العُمّالي المُتمثّل في عُمّال شركة نفط البحرين المحدودة (بابكو) لتعديل أوضاعهم المهنيّة.

تعرَّضت “القافلة”، والصحيفة التي كانت تريد مُجاراتها “الخميلة”، إلى مقصّ الرقيب، فكانت الصحيفة تصدر تاركةً مساحة المقالة غير المُرضيّ عنها بيضاء، في إشارة إلى أنّ مقالةً كانت هنا وتمّ التدخّل لشطبها. تكرَّر الأمر مرّات ومرّات، حتّى ضاق الحال بالسلطات البريطانيّة، فقرَّرت إيقاف “القافلة” و”صوت البحرين” معاً في العام 1954.

ولكنّ الشغف الصحافي عاود الصحافيَّين الرائدَين، فحصلا من جديد على ترخيصٍ لإصدار صحيفة أسمياها “الوطن” هذه المرّة، وكان ذلك في حزيران (يونيو) 1955. وبعد شهر تمّ منْح ترخيص إصدار صحيفة “الميزان” لصاحبها عبد الله الوزّان، وهو أيضاً من الصحافيّين الذين كان لهم شأن في تلك الفترة.

تشابهت الصحيفتان في التوجّهات التحريريّة، فكلّ منهما كانت تهتمّ بالوضع العامّ، والارتفاع بسقف الانتقادات إلى المستوى المُلامِس لأسقف الممنوعات، وكذلك الأوضاع العربيّة العامّة، وخصوصاً القضيّة الفلسطينيّة، ودعْم تحرُّر الدول العربيّة الأخرى من مثل الجزائر وغيرها من الدول التي لم تكُن قد نالت استقلالها حتّى ذلك الحين. ولكنّ الصحيفتَين اللّتَين صدرتا معاً تقريباً، أغلقتا معاً… تقريباً أيضاً، والأسباب في هذا تتراوح ما بين الجانبَين الاقتصادي والسياسي. فأغلقت “الوطن” في أواخر حزيران (يونيو) 1956، و”الميزان” في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام نفسه.

عاوَد المردي التجربة في العام التالي، بإصدار صحيفة “الشعلة” التي يُمكن اعتبارها المسمار الأخير الذي دُقّ في نعش الصحافة البحرينيّة في تلك الحقبة. فلقد كان المردي – كبقيّة رفاقه – يحمل همّاً كبيراً، ومسؤوليّة ضخمة على عاتقه وهي تنوير أبناء شعبه، والعمل على إبقائهم مُطّلعين على مجريات الأمور على المستويَين الداخلي والخارجي.

بعد 14 شهراً من إغلاق “الوطن” حصل المردي مجدّداً على ترخيصٍ لإصدار صحيفة أخرى أسماها “الشعلة” وقد صدر منها عددٌ يتيم، إذ “تمّت طباعة 200 نسخة في يوم صدورها في 24 آب (أغسطس) 1956، وتمّ توزيعها في الأسواق، ثمّ سُحبت جميع النسخ المطبوعة خلال ساعة واحدة من توزيعها في الأسواق؛ إلّا أنّ سبعَ نسخ منها فقط بيعت قبل مُصادرتها” (سرحان، منصور، “الأيـّام” تنشر خبراً يستحقّ أن يُكتب بماء الذهب، صحيفة “الأيّام” البحرينيّة،3/5/2018). وقد بيعت واحدة من هذه النسخ النادرة بمبلغ 5000 دينار بحريني (13.3 ألف دولار أميركي) في مزادٍ علنيّ، بعد أن ظلَّت هذه النسخة الفريدة مفقودة قرابة 62 عاماً. أمّا سبب الإغلاق، فكان قيام محمود المردي في افتتاحيّة هذه الجريدة بمُهاجمة مدير مكتب الاستعلامات البريطانيّة.

منذ ذلك العام، وبعد هذه التجارب الصحافيّة المريرة بالنسبة إلى البريطانيّين كما بالنسبة إلى الصحافيّين الوطنيّين أيضاً، والتي كانت مدعومة بتجربة “الهيئة” ومُنتهية بالهَيجان الشعبي ضدّ الإنكليز بسبب العدوان الثلاثي على مصر في تشرين الأوّل (أكتوبر) 1956، تمّ إيقاف إصدار أيّ ترخيص لصُحفٍ جديدة، وصدرت صُحفٌ أسبوعيّة رسميّة، ولم تكُن هناك سوى نشرة “النجمة الأسبوعيّة”، وهي صحيفة أسبوعيّة تصدرها شركة نفط البحرين المحدودة (بابكو)، توزِّعها مجَّاناً، وكانت الصحيفة/النشرة تنشر الأخبار الرسميّة والأهليّة العامَّة وليس أخبار الشركة فحسب، وبقيت هذه النشرة المَصدر الوحيد للأخبار المحليّة منذ العام 1957 وحتّى العام 1965.

كانت تلك هي البدايات الصعبة للصحافة البحرينيّة، والتي تكشف عن رباطة جأش القائمين عليها، الذين لم تُلجَم أحلامهم على الرّغم من التجارب التي كانت تنتهي غالباً بإغلاق المؤسّسة الصحافيّة من طرف المستعمر؛ إذ كانوا سرعان ما يُكرِّرون المُحاوَلة، ويُصدرون الصحيفة تلو الصحيفة. فهُم – وإن لم يدرسوا الصحافة والإعلام – كانوا روّاداً ويستشعرون الأدوار التي عليهم تأديتها، ولعلّهم كانوا يرقبون ما الذي سيقوله تاريخ الصحافة في هذا البلد عن شغفهم وعنادهم لفتح طاقة في جدار العتمة.

***

(*) كاتب صحافي وباحث من البحرين

(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة أفق

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *