جان بول سارتر… مُلحد صدامي أم مُكترث لبراهين العقل
وفيق غريزي
إن الوجودية الحديثة، هي فلسفة القرن العشرين. هكذا سيصنفها التاريخ، وقد بدا انها صرخة الانسان، من اعماقً اعماقًه، في وجه القدر، انها صورة مأساة الانسان في هذه الدنيا العابثة، فالوجودية الحديثة هي اعنف رد فعل على الاحوال الصعبة التي يعايشها الانسان منذ زمن بعيد، مرتاح البال، هادىء القلب، ناعم الخاطر، ساكنًا سليمًا، لقد نحتت كل قواه الراقدة، ورمته في نواعير مصيره.
وجان بول سارتر، الفيلسوف الوجودي الفرنسي، الذي يعتبر ابا الفلسفة الوجودية، هو ملحد، ولا يجوز التحويم على الوجودية الحديثة، من دون الالتفات الى هذا الفيلسوف والاديب بصورة خاصة، فالذي يطالع ادب سارتر، وادب غيره، من لفيف الوجوديين السائرين على خطاه، يرى بوضوح ذلك التمرد على السماء، الذي لم ينتج من نزوع عقلاني، أي من انسان لم يتمكن من التدليل ايجابًا، الى أن الله موجود، بالعكس، لقد صدر عن الارادة التي رفضت الايمان به، والرفض. يفترض وجود المرفوض، أن الله موجود، لكن الارادة ترفضه. إن الحاد سارتر الحاد هجومي لا يكترث لبراهين العقل – العقلانية، ويرى البعض أن عند سارتر بعض اللمع التي تشير الى العودة الى حظيرة الايمان، اذ يشدد كثيرا على التفاؤل، وعلى وجوب النفاذ الى الملاك، في الانسان، ولكن عن طريق الشيطان، والى السماء من خلال الأرض، الى الابتسامة من خلال الدمعة، والى الامل من خلال اليأس.
حياة لا تخلو من عنصر التراجيدي
لا تخلو حياة جان بول سارتر من عنصر التراجيدي الذي يميز حياة العظماء من المفكرين والفلاسفة، وهذا العنصر التراجيدي او عنصر المأساة، سيكون له اكبر اثر في تطوره الروحي، وفي تلوين اعماله الفنية والفلسفية بطابع خاص.
ولد سارتر في 21 حزيران 1905، ولم يلبث والده، وكان ضابطا في الجيش الفرنسي، أن توفي بعد ولادته بثمانية اشهر، فنشأ سارتر يتيمًا فاقدًا للعنصر الأبوي، في حياته، وجعله هذا اليتم يتعلق بأمه تعلقًا شديدًا الى حد العبادة، على غرار تعلق الشاعر الفرنسي شارل بودلير بأمه. واضطربت حياة الطفل حينما رحلت أمه الى باريس للعيش مع ابويها آل سويتزر، وكانت جدته هي الشخصية المسيطرة على حياتهما في تلك الاثناء، ما اصاب تقديسه لأمه بجروح لا تندمل، اذ كان ينظر اليها باعتبارها آلهة، وليس من اليسير عليه أن يرى هذه الآلهة تحيا على رحمة الجدة وعطفها.
بيد أن حنان الأم كان اكبر عوض له على قسوة الحياة التي يحياها، فقد كان الموضوع الوحيد لحبها، وضاعف هذا الحب يتمه واعتلال صحته، وعلى هذا، نستطيع القول أن سارتر قد ظفر في طفولته باكثر من نصيبه من الحب والحنان. وكانت صدمته الكبرى حينما تزوجت أمه للمرة الثانية، وكان قد بلغ الحادية عشرة من عمره، ونال حظًا غير قليل من دراسة الأدب، فقد كان طفلا ذكيا مبكر النضوج، سريع التحصيل، قوي الفطنة، وبهذا الزواج تألقت العقدة الاساسية في مأساته، وفي هذه الحالة يشبه بودلير، الذي الف عنه كتابا يحلل فيه شخصيته تحليلا وجوديا، وهو لم يكن ليفعل ذلك لولا أنه كان يشعر بما بينهما من قرابة في الروح، واشتراك في المأساة، فكلاهما أحب أمه حتى العبادة، وكلاهما صدم في هذا الحب في سن مبكرة، وكلاهما كان عليلا مرهف الحس واسع الخيال، بيد أن الاثر الذي تركته هذه الحادثة يختلف عند كل منهما. فبودلير اكتفى بالتمرد الداخلي على الحياة، ولكنه ظل محتفظا بالقيم الاساسية القائمة من دون أن يحاول تحطيمها، بينما ادت بسارتر الى انكار كل القيم الاخلاقية القائمة، وجنحت به الى تحطيم كل القيود ايا تكن، والى انكار الحب والامومة وكل العواطف الانسانية النبيلة التي يمكن أن تربط الانسان بالاخرين.
الحب الأمومي المنهار
“لا شك أن هذه التجربة العميقة التي استيقظ سارتر بعدها ليجد الأساس الذي شيّد عليه وجوده، وهو حب أمه قد انهار، هذه التجربة دفعته الى القول أن وجود الانسان ليس هناك ما يبرره، والتي دفعته ايضا الى الالحاد “الذي يختلف عن الحاد الفيلسوف الالماني مارتن هايدغر في أنه الحاد عاطفي وهذا اسوأ ضروب الالحاد.
في تلك المرحلة كان سارتر طالبا مجتهدا مشغوفا بالقراءة والاطلاع غريبا في اختياره للكتب التي يقرأها. فبينما كان اقرانه يقبلون على قراءة اندريه جيد وجيروود كان سارتر يلتهم مؤلفات فارير واناتول فرانس التهامًا. كذلك كان يعشق أدب بروست وفاليري وآلن. وكان الى هذه المطالعات يكتب قصصًا خيالية، ومقالات فلسفية متعددة، وكان يستغرق في الكتابة استغراقًا شديدًا، ويكتب في سرعة فائقة وخصوبة رائعة اوغرت عليه صدور زملائه وزرعت في نفوسهم الحسد والغيرة.
وبعد تخرجه امضى سنوات تجنيده، ثم اشتغل في تدريس الفلسفة في مدرسة “باستور” في باريس، وبدات مجلة “اوروبا” تنشر مقالاته عام 1927، وكانت أهم مقالاته التي نشرها حينذاك عن فرنسوا مورياك خالف فيها النقاد جميعا. وعام 1945, انشا مجلة العصور الحديثة وضم اليها رفيقة حياته سيمون دي بوفوار وموريس ميرلوبونتي وجان جينيه وجورج باتاي وغيرهم. وعام 1949 زار سارتر الولايات المتحدة وكندا، وعام 1952 وقع خلاف بينه وبين صديقه الحميم البير كامو واستبدله بالكاتب جان جينيه، وقد نال جائزة نوبل عام 1964. ولكنه رفض تسلمها وكان عام 1933 قد سافر الى المانيا لدرس الفلسفة الظواهرية التي اقترنت باسم فيلسوفين هما: هسرل وهايدغر، ولكن هذا لم يمنع تاثره بثلاثة فلاسفة اخرين هم: هيغل وكيركغارد وكانط.
الحرية لا تختلف عن وجود الفرد
لا تقتصر الحرية على افعالنا وحدها لكنها تمتد الى عواطفنا ومشاعرنا جميعا لان هذه العواطفً والمشاعر تعتمد على وجودنا الخاص، وهي عبارة عن مواقف ذاتية يحاول بها المرء أن يصل الى الغايات التي وضعتها حريته الاصلية. فًالحرية عًند سارتر لا تختلف عن وجوده في شيء، بل هي وجوده نفسه، وهو في كل احواله حر.. فًي الخوف والجزع والتعب والغضب.
والواقع انه لا ثبات في الوجود الا ما نفرضه نحن عليه فرضا. كذلك لا وجود لقواعد او اطارات محددة لا تتغير، وفي مثل هذه التجربة يتخذ الزمان والمكان مرونة تامة. فاذا انزلقت الحياة المالوفة التي نحياها، وفرت من بين اصابعنا اصابنا الغثيان. عالم جان بول سارتر عالم تختفي منه الضرورة، عالم نشعر ازاءه بالخوف لانه يتضخم كما تتضخم الانسجة المصابة بالسرطان، تتضخم من دون حد اوسبب او قانون معروف، وانما يريد الوجود أن يملاء كل شيء، وان يغزو كل شيء.
ويميز سارتر نوعين من الوجود: الوجود الانساني ويسميه الوجود لذاته، ووجود الاشياء ويسميه الوجود في ذاته، الذي هو عنده وجود لا معنى له ولا سبب ولا علة ولاضرورة، ولا خالق يفسر وجوده، والوجود الانساني اي الوجود لذاته هو الذي يهب للاشياء قيمتها، وقبل أن ياتي الشعور الى العالم كان هذا العالم فوضى مطلقة لا معنى لها.
ويرد سارتر على منتقدي فلسفته بتأكيده أن فلسفته تدفع الى الخمول والتقاعس عن الفعل. ولا يمكن أن يقع اللوم على الوجودية حينما يلجا قوم الى التراخي والكسل، ويقولون فيما بينهم وبين انفسهم: هناك دوما من يستطيع أن يفعل ما اعجز عن فعله. كذلك ينكر سارتر أن الوجودية فلسفة متشائمة بقوله انها نوع من التفاول القاسي، واذا كان سارتر ياخذ من الضعفاء والمرضى والمنحرفين ابطالا لقصصه ومسرحياته فانه لا يذهب مذهب اميل زولا فيلقي تبعة هذا الضعف والمرض والانحراف على المجتمع او على الوراثة او على البيئة، فانه لو فعل ذلك، لاطمان الناس، ولوجدوا الاعذار المختلفة التي يمكن أن يبرروا بها ضعفهم ومرضهم وانحرافهم. اما سارتر فانه يلقي التبعة كلها على الفرد، فيقول: ” أن الجبان مسؤول عن جبنه، والضعيف عن ضعفه ” ولم يصبح الواحد او الاخر على ما هو عليه الا نتيجة لاعماله وموقفه من الحياة.
فقدانه اللمعات الشعرية الرومانسية
صراحة أن فلسفة سارتر فلسفة وجودية، لا نجد عنده هو بالذات تلك اللمحات الشعرية الرومانسية التي كثيرا ما نجدها في ذلك الاتجاه الفلسفي. على العكس من ذلك، فان نظامه الفلسفي مبني على نحو منطقي دقيق صارم، ويتخذ وجهة عقلانية تماما بل تكاد تكون وجهة “اولانية”. صحيح أن سارتر مشغول في معظم اجزاء فلسفته بتقديم نظريته في الانسان، ولكن هذه النظرية الانسانية يقيمها على دعائم من نظرية الوجود ( انطولوجيا )، فهي تكاد تتكون كلها على التقريب من تطبيق منطقي لمبادىء انطولوجية على الانسان وعلى مشكلاته.
“ومن الجلي أن سارتر يسير على اثر الفيلسوف الالماني مارتن هايدغر، ولكنه ليس مجرد تابع لذلك الفيلسوف، وقد اعلن هايدغر نفسه، وعن حق، انه غير مسؤول على اي نحو عن المذهب السارتري. وسارتر ايضا، وشأنه هذا شان الفلاسفة الوجوديين تابع من اتباع المفكر الدانمركي كيركغارد”. ولكنه كثيرًا ما يقدم حلولا معارضة تمامًا لما قدمه المفكر الديني كيركغارد للمشكلات الوجودية التي اثارها. وكذلك يبدو سارتر أنه وقع تحت تأثير فريدريك نيتشة من جوانب متعددة، من جهة اخرى، فان سارتر يقيم الخطوط الرئيسية لمذهبه مستعينا بالمنهج الفينومينولوجي الذي قدمه هسرل، وهويستخدم هذا المنهج استخداما واسعا “. ومن الظاهر أن عددا من افكار سارتر الاساسية مصدرها هيغل، ومنه قضية التعارض بين الوجود والعدم، ولكنه بالطبع تعارض بغير مركب منهما عند سارتر.
يبتعد المذهب الوجودي السارتري، على ما هو ظاهر للعيون، عن الافكار الذاتية المبنية على تجارب شخصية عند كيركغارد. انما يظهر ذلك المذهب على هيئة نظرية انطولوجية، حيث ينطلق سارتر من تحليل الوجود، ليطبق اهم المبادىء المستخرجة من ذلك التحليل تطبيقا دقيقا صارما، على ميادين مخصوصة، ومنها مشكلات نظرية الانسان.
وابرز ما يظهر من هذه المبادىء هو النبذ الحاسم لمذهب ارسطو في “حالة ما بالقوة”. ويرى سارتر أن كل ما يوجد يوجد على ماهو عليه فعلا، وبعبارة ارسطو، فان كل شيء يكون بالفعل ولا يوجد شيء ” بالقوة ” عند سارتر يرى أن ليس هناك في الموجود، ولا يمكن أن ان تكون هناك، اي امكانية اي قوة بالمعنى الارسطي، فمن المناقض للمعقول على سبيل المثال، أن يتحدث متحدث عما كان يمكن أن تنتجه عبقرية مارسيل بروست اوالتي لو كان قد عاش اطول مما عاش، لا عبقريته في راي سارتر تقوم وحسب في مجموع اعماله التي انتجها وليس في شيء خارج ذلك، ولا تقوم في امكانه أن يكتسب عملا ادبيا غير ما كتب.
العدم داخل الوجود
من جانب آخر، يرى سارتر أن الموجود لاجل ذاته يظهر حينما ينعدم الوجود، ولا بد من أن نآخذ كلمة “العدم” هنا بمعناها الحرفي تماما. ويشرح سارتر الامر بان العدم لا يكون، اي حينما ينفي ذاته، بل لا يمكن كذلك أن نقول انه “ينعدم” (أي يطبق فعل العدم على ذاته)، لأن الموجود وحده هو الذي يمكن أن ينعدم، بينما العدم يستطيع وحسب أن يبقى قائما في داخل الوجود كأنه “الدودة” أو كأنه بحيرة صغيرة، اذ “يأتي العدم الى العالم عن طريق الانسان، ولكن لكي يكون الانسان منبع العدم، فانه لابد أن يكون حاملا العدم في داخل ذاته٠. والواقع أن تحليل الموجود لاجل ذاته يظهر في راي سارتر، أن الانسان ليس فقط يحمل العدم في داخله، بل أن العدم هو قوامه على التحديد “. ولكن لا ينبغي أن نفهم من هذا أن الانسان في شموله عدم، بل هناك في الانسان ما – هو-في ذاته، من ذلك جسمه، والانا فيه، وعاداته. وما إلى ذلك، لكن ما هو انساني على التحديد في الانسان قوامه العدم، وثمة انجذاب آخر للموجود لأجل ذاته هو الوجود لأجل الآخر، حيث يؤكد سارتر أن العلاقات مع الآخر جوهرية وضرورية للانسان، وأنه ليس لنا دوافع جنسية لأننا نحمل اعضاء جنسية، انما العكس هو الصحيح. فالانسان له اعضاء جنسية لانه فًي ماهيته موجود جنسي، اي موجود لأجل الآخر. فنحن لا نشتهي جسد الآخر، بل ولا نشتهي لذتنا نحن انفسنا، انما نحن نشتهي الآخر ذاته، احدى وسائل هذا تكون على سبيل المثال: بالتوحد مع الآخر من خلال الجسد، وعن طريق مداعبات الحب. ولكن كل هذا يصل دوما الى نهاية. ولا بد بالضرورة من أن يقع في الفشل، لان الهدف غير ممكن ولا معقول، اي تملك الاخر وتملك حريته.
إن تاريخ الفكر الفلسفي الغربي لم يشهد مطلقا شكلا من اشكال المذهب الواقعي في المعرفة بمثل التطرف الذي نراه عند سارتر، وقد قيل، عن حق، أن هذه الفلسفة الوجودية، وهي التي ينبغي أن تفسر وجود الانسان، كما يدل اسمها، انما هي حقا نظرية في اللاانطولوجيا اي نظرية اللاوجود … تكون، على سبيل المثال: بالتوحد مع الآخر من خلال الجسد وعن طريق مداعبات الحب. ولكن كل هذا يصل دومًا الى نهاية، ولابد بالضرورة من أن يقع في الفشل، لان الهدف غير ممكن ولا معقول، اي تملك الاخر وتملك حريته.
إن تاريخ الفكر الفلسفي الغربي لم يشهد مطلقا شكلا من اشكال المذهب الواقعي في المعرفة بمثل التطرف الذي نراه عند سارتر، قد قيل عن حق، أن هذه الفلسفة الوجودية، وهي التي ينبغي أن تفسر وجود الانسان، كما بدا اسمها، انما هي في الحقيقة نظرية في اللاانطولوجية اي نظرية اللاوجود..