سرجون كرم… “سمكريّ الهواء العليم بكل شيء”

Views: 83

أنطوان يزبك

 

أسير وحيدا كما غيمة

تلك التي تحوّم عاليا

فوق الجبال واعماق الوهاد

ووردزورث – قصائد لبيغماليون-

 

في ديوانه الجديد،” سمكريّ الهواء”، المذيّل بعنوان آخر: “العليم بكل شيء”، يعمد   سرجون كرم إلى اقحامنا  في دوّامة من أفكار وذكريات ومشاعر،إذا أمعنّا النظر فيها، لعثرنا على  لوحات توراتية حيّة وأزمنة أسطورية متوازية ومتراكبة بعضها فوق بعض،  لا يستطيع أن يتخيلها سوى عتات من جمهور أهل الفن والرؤى والشعراء الأكثر جموحا في خيالهم ؛ من أمثال ويليام بليك، لورد بايرون، فيكتور هوغو وهولدرلين.

ولا غرو لو شحذنا مخارز  خيالنا قليلا بعد،  فمن يقرأ النص في متونه المتعددة، وتسلسله في ارتباط القصائد الواحدة تلو الأخرى، بمشكاة كبرى تطمح إليها الروح، يجد أنه قد عبر حاجز الزمن على متن سفينة انتربرايز بعد أن عكست توربيناتها  وهبط  في بعد متجاوز من الشعر والفن التشكيلي؛ فمن لوحة بروغل الأب ؛ بابل ( قصيدة تحت عنوان برج بابل صفحة 19) إلى سائر لوحات جيروم بوش الهذيانية في تصويره المطهر والجحبم  وصولا إلى فراديس فيرمير وروبنز، ودقّة  دورير ورافائيل.

وبتعبير لغة النقد المتقدم : إنها  كرنفالية مدوّية كما يطلق عليها، غالباً، الناقد الروسي باختين تعبيره هذا في مواجهة  تلك النصوص المتحدّية، التي تحشد كل المشهديّات في وحدة كتابية نصيّة متفوقة، تكسر الزمن الجامد الذي “يراوح” مكانه، بحيث نجهل كل شيء عنه ولكنه يحشر كل صور الوجود في مشهدية قياميّة كما عند حلول  الحساب الأخير أو الحشر والنشر في نهايات الأزمنة!

يقف سرجون كرم في لغته المتجددة والمتنامية موقفًا صلبًا، إذ عاهد نفسه على أن يستعين في كتاباته بمقاييس جديدة وأسلوب متحرر،  أطلقه في مواجهة كلّ مدّعي المعرفة، وكتبة التقارير وناقلي الكلام  الذين هم في  واقع الحال يزوّرون  الحقيقة، كما يختلسون المشاعر وينتهي بهم المطاف ليتحولوا إلى  مدّعي خرافة، فما من ادعاء الا ويصطدم ببعض من معرفة بداية، ليتبيّن بعد ذلك أنها ليست سوى محاولات فاشلة لا تشبع من جوع، جوع الانعتاق والتحرر عند أصحاب النوايا الحسنة وليس عند منتحلي الصفة وشعراء الصدفة والخديعة!….

د. سرجون كرم

 

مع استمرار  أويقات عجاف من استحالة ظهور فجر الحقيقة وانسداد أفق، وهيمنة سماء حالكة مربدة، بيد أنها لا تسقط مطرا وسلاما،  لا بل تحبس ماءها بسخرية ممضّة ! صار لزاما أن تنطلق الكلمة من عقالها، امام هذا الهدوء السمج والخواء الباهت،  الذي يقضم الوجود،أفرج سرجون عن ديوان “سمكري الهواء”، لكيما يلج القارئ الواقف عارياً من الروح والبصيرة، إلى دوّامة التاريخ والأديان والمذاهب والحروب والصراعات ومجازر افناء الجنس البشري، حيث الأرواح التائهة والنفوس الظمئة، فنقع في مجاهل العصور الغابرة  على محاكم التفتيش ومحارق الهراطقة، وتقفز  إلى روع الناس شخصيات مثل توركيمادا، ونوستراداموس ،  الشيطان بكل تجلياته وعفاريته، الأمير الصغير وعالمه الكامن في المجرّات، شخصيات تخرج توّا من فيلم ساحر اوز، وتقول في سريرتك ما الذي يجمع أبا اللهب مع أبي ذر الغفاري، هيروشيما و سعير محارق  معتقل المحرقة النازية في  اوشويتز، مع انطاكيا، كييف، وغيرها من البلدان والعواصم وعلى رأسها بيروت.

ونكمل التعداد : منطق الطير لفريد الدين العطار، حلقات الذكر، الكهنة: ملكي صادق يوشفاط، الأمة،  البرزخ، الرهبان والكنائس الإنجيل والتوراة والقرآن، القنداق، الأنبياء :يوسف،  نوح، موسى وهارون (صفحة 33) …

وتكرّ السبحة، ربط الأزمنة بعضها ببعض، بلبلة الأحداث والحقبات، شاعرية مستفيضة أخّاذة  تخلط الماضي بالحاضر بداية على طريق البرزخ وأهل الكهف، وانتهاء بنبؤات نوسنراداموس وكأننا نقرأ روايات جول فيرن في الخيال العلمي المتصلة برعب ستيفن كينغ الرائي الذي لا يعرف حدودا للمبالغة  ولا مقاييس  للفزع ومدى القدرة على احتماله ومعه أوجاع كل الوجود !

أجل كل هذا هو سرجون كرم في “سمكري الهواء”، سمكري وعارف بمحطات الوجود على دروب البشريّة،  وحريّ بنا أن نطلق عليه لقب المزماري الارقط، ساحر مدينة هاملين وقد انقذها  من جرذانها وكذلك حرمها من أطفالها، بنفخة واحدة من مزماره،  هو حامل الأسرار حين يقول في قصيدة أسفار الشيطان، صفحة11:

 حين ربطونا إلى كومة حطب

واضرموا فينا النار.

يومها أقسمت ان اكتب كتابا بالعناصر الخمسة.

هكذا يلج بنا سرجون كرم  داخل تيه العبادات الأسرارية، مستعيدًا حلقات الذكر وتقديس آلهة  الميترا إحدى الربّات السرّيات!

وأيضا في قصيدة الجرار والأرحام (صفحة 15) فهو يستعيد المكتشفات الأثرية من عصور حجريّة، حين كان يُدفن الميت في جرة وهو منطوٍ على ذاته في الوضع الجنيني، على أمل أن يعود ويولد في عالم آخر، عالم الأبعاد المجهولة، عالم  الماوراء، إذ يقول في هذه القصيدة:

للأرحام   وهي تلد الرماد للجرار،

للجرار التي تحشو ثقوب الحدائق، ….

ليقول بعد ذلك :

لكل هذه الأشياء التي تحيط بي

أريد هدوءا قاتلا

يبدأ بالبنايات المجاورة

ويمتد إلى المدن والقرى..

نعم هو العالم دائري بامتياز ينطلق ليعود إلى نقطة البداية في حركة لا نهائية، أبدية سرمدية كما اسطورة العود الأبدي، على الرغم من أفول الآلهة عند الغسق في نيتشوية قاسية وانحدار كبير للحضارة والإنسان.

قد يظن ّ القارئ أن ما يتناوله الشاعر ليس سوى استعادة لتعاويذ فرعونية ولعنات في كتاب طلاسم بابلي على مذهب هاروط وماروط أم كتاب سحر قروسطي grimoire، مشغول تعبيريا  في قالب لغة عربية حديثة،  ولكن في الواقع، ما يقدمه لنا سرجون كرم هو ربط بين سلاسل لا متناهية من المعاني، قول في حالة وعي الذات وإدراك للإنسان الآخر،  يندرج في سياق الواقعية السحرية، وذلك من خلال الربط التاريخي المباشر للصور والأحداث والمشاعر والتقلبات النفسية والامزجة، ربط الأزمنة وكأن الزمن لم يتبلبل أو يتبدل، ولم يتمازج حتى  وجوباً ام جبرًا، بل استحضار يقوم به الشاعر بقوة  لكل ما هو تاريخي، ديني، ما ورائي، غرائبي، أسراري، صوفي، عجائبي لكيما يتخطى المألوف والعادي التقليدي و المتوارث،  المكرر والممجوج ؛ من أجل أن يتخطى ذاته ويُمسك بيدنا ويجعلنا نعبر معه إلى فضاءات غير مطروقة من الفانتازيا والمكاشفات، وحده “العليم بكل شيء” يستطيع أن يأخذنا إليها…

في قصيدة برج بابل (صفحة 19) يقول الشاعر:

ونحن صاعدون برج بابل

يتهامس الناس فيما بينهم

سئمنا من نجمة تضيء خلفنا

فأطفأناها

وأشعلنا قناديل الزيت.

وكأن “هؤلاء الناس ” في عصرنا المتقدّم جدا قد قرروا الوصول إلى المعرفة، من خلال تجاوز الظلمة والجهل والانحدار فـ:” نحن كالله لا شيء يشبهنا”…

فإذا كان الله هو الله كما في تعاليم المعتزلة، بات إدراكنا لذاتنا من سابع  المستحيلات….

ويتواصل البحث في هذا الديوان على شكل مغامرة ورحلة في مجاهل الذات البشرية: ما الذي يربط ريغا ببيروت وانطاكيا، القسطنطينية بالكوفة، مايكل انجلو ويهوذا الاسخريوطي، جوليات، وطارق بن زياد بالأخوين غريم، الكنائس والمعابد والمساجد، التكايا والخلوات كما زوايا العابدين الزاهدين المتحررين من الأرض والسماء على حد سواء؟!

الجواب يكمن في قصائد  ديوان سرجون كرم الذي نستشفّ، في كل حرف من حروفه،  انبثاق روح  مغامرة غير مسبوقة، مغامرة النفاذ، مغامرة الهروب من الإطار، من لوحات بروغل وجيروم بوش وجنون القرون الوسطى، مذابح و حروب الشرق والغرب الصليبية الدينية المذهبية،  ثورات القرامطة وحروب الخوارج، ثورة الزنج، حرب المئة عام، الحروب العالمية، الحروب الأهلية، الحروب العبثية كل هذا الدردور الرهيب الذي بسببه أغرق العالم  في دوامة من ظلام وانعدام للإحساس والفكر والمنطق، أجل أراد سرجون كرم النفاذ كما في  قوله تعالى؛ يا معشر الجنّ والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون الا بسلطان. سورة الرحمن (33).

ففي هذا الديوان يتساوى الجن والإنس على حد ّسواء في اقتسام العبث والجنون واللاأدرية، وسط زحام الحشود المتهافتة على اللحود !

وبعد ماذا نقول أيضًا في الخواتيم؛ في القرن الماضي بشّر خورخي بورخيس بأن الأدب سيعود إلى كتابة الملاحم لتحلّ مكان الأساليب الأدبية الأخرى .. . وعلى ما يبدو  لم يتوانَ سرجون كرم  عن كتابة ملحمة الذات في مواجهة كون آسر، جاهد كثيرًا ليفكّ أسر روحه المعذّبة  من سجنها اللامتناهي، ويفوز بجدارة نعمة التحليق في أرجاء الحضرة الإلهية.

(tntechoracle)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *