وجيه فانوس… رحلة إلى الحرّيّة
ابتسام غنيمه
د. وجيه فانوس،
أيّها البحر الزّاخر علمًا ومعرفةً…
يا عَلَمًا علّامة أرسى مداميك الفكر والثّقافة بتبحّره الدّائم في عالم المعرفة!
يا راحلًا يَتَّمَ القلمَ وأثكلَ الجرائد والكتب والمجلّات!
في السّاعات الأولى من يوم الأربعاء، وتحديدًا السّاعة الواحدة وعشرون دقيقة بعد منتصف اللّيل، وصلني عبر الواتساب آخر مقالاتك المنشورة في جريدة اللّواء، وهي واحدة من سلسلة مقالات فلسفيّة تتناول موضوع: “من أعلام التّجربة الأوروبيّة في البحث عن الحرّيّة”. وكانت بالفعل المقالة الأخيرة المنشورة من مجموعة مقالات بعدد نجوم السّماء، تتلألأ علمًا وخبرة وثقافة شاملة. وأقول المنشورة لأنّي سألتك يومًا: من أين لك الوقت لتكتب كلّ هذه المقالات في حين قد تأخذ أحيانًا المقالة معي أكثر من أسبوع لكتابتها؟ فأخبرتني أنّ لديك الكثير من المقالات التي أعددتها زمن الكورونا وأنت اليوم بصدد نشرها. وقلت لي بحسّك الفكاهيّ: هذه فائدة الحجر.
وانجلى اللّيل لأفاجأ صباحًا باتّصال هاتفيّ ينبئني برحيلك… لم أصدّق. أعدتُ فتح الواتساب لأتأكّد من أنّك راسلتني منذ ساعات قليلة… فُجعت. آلمني الخبر. انسابت دموعي على معرفة استمرّت شهورًا تضاهي سنوات. تبلكمَ قلمي كما لساني… تلعثمت الأحرف وارتبكت.
اتّصالي الأخير بك كان في التّاسع من الشّهر الجاري لمعايدتك في عيد الأضحى المبارك، علمًا أنّك الأوّل في هذا المجال، تسبق المناسبات، مع أنّك الكاتب الكبير والمفكّر العظيم والأكاديميّ المتميّز، وأنا الطّفلة التي تحبو في صرح أدبك وثقافتك. وخلال هذا الاتّصال أخبرتني بسوء وضعك الصّحّيّ.
في هذه اللّحظات الحزينة، عصرتُ قلمي، واستحضرتُ بعض الذّكريات التي صبغت علاقتي بك خلال الأشهر المنصرمة، والتي مهّدت لي أن أعرف الكثير عنك وعن سموّ أخلاقك وصفاتك، فضلًا عن مؤهّلاتك العلميّة والأكاديميّة التي يعرفها الكثيرون.

في بداية شهر آذار اتّصلت بك من دون معرفة مسبقة، وسألتك أن تكون أحد المنتدين في ندوة تكريم شاعر الكورة الخضراء عبد الله شحاده، وأن تبلغني قرارك بعد اطّلاعك على مؤلّفات الشّاعر. فوافقت مع أنّك كنت حينها تعاني من أزمة صحّيّة، والصّحّة تشغل المرء عن كلّ ما عداها. وكنت تتابع معي مختلف تفاصيل التّحضير، فتوطّدت علاقتنا، لا سيّما وأنّك كنت ترسل إليّ مقالاتك الكثيرة وأرسل إليك مقالاتي القليلة، ونتبادل الآراء حولها. هذه الآراء التي أحتفظ بها ذخيرة غالية.
أيّها المتواضع والمتواضع والمتواضع، وخير مثال على ذلك مع ما تتمتّع به من رحابة صدر وفكر، أنّك قبلت يومًا رأيًا مطوّلًا لي في خليل حاوي قد لا يستسيغه البعض، وذلك بعد قراءتي لمقالتك عنه، وقلت لي، مبديًا إعجابك، حرفيًّا: “رأيك أهل بالاهتمام والنّقاش، وأنا أهتمّ له كثيرًا”، ثمّ تكلّمت على النّاحية الفريدة التي تناولتها، وقلّ أن اهتمّ لها أحد كما ذكرت.
ويوم طلبتُ منك سيرتك الذّاتيّة لأكتب تعريفًا بك أجبتني: سأرسلها إليك، خذي منها ما تشائين، ولكنّي ألخّص التّعريف بي بكلمة واحدة: متواضع.
التّواضع والفكاهة سمتان طبعتا شخصيّة د. فانوس. فحتّى في مرضه، عندما كنت أسأله عن صحّته، كان يجيبني: “إنّها تتحسّن بشكل بطيء جدًّا، كأنّها تتمثّل بتحقيقات المرفأ والمصارف”… ومرّة قال لي: “لن يقدر عليّ إبليس”…
فعلًا د. فانوس، لن يقدر عليك إبليس بما تركت من إرث أدبيّ وثقافيّ وإيمانيّ سيُكتَب له الخلود أبد الدّهر. (https://ironman.greaterzion.com/)
إنّ الحرّيّة التي بحثَ عنها في كتاباته، حتمًا قد بلغها في رحيله، إذ تفلّت من قيود دنيا فانية إلى عالم رحيم، عالم محبّة، ليس فيه مشاحنات سياسيّة، ولا بؤس إنسانيّ، ولا تبعيّة إلّا لله عزّ جلاله… عالم كلّ ما فيه قيم تمثّلت بفقيدنا الكبير.
عطفك ربّي! لبنان لا يحتمل خسارة الفكر والكلمة الحرّة الصّادقة.
عطفك ربّي! تغمّد د. وجيه برحمتك وأسكنه فسيح جنانك باسم النّبيّ عليه السّلام، واجعله مع أبرارك وصدّيقيك باسم السّيّد المسيح، لأنّه لم يكن يومًا لطائفة، ولم يكتب متحيّزًا، بل كان للبنان مشرعًا قلبه وقلمه للعقل والحبّ والحرّيّة.