البُعد الصوفي في شعر أدونيس بين الحقيقة والسراب

Views: 10

وفيق غريزي

ادونيس من اكثر الشعراء العرب ترجمة الى اللغات الاجنبية، وافكاره عن الحداثة والتراث شكّلت وعي اجيال باكملها. لقد اشتغل طيلة خمسين سنة على التطوير والتجديد والاختلاف والثورة، لا يكل ولا يمل، في زمن عربي تكاثرت فيه الهزائم والمحن والنكبات، وامتزجت فيه الاحلام والكوابيس، والمثالية والواقعية، والآمال الكبرى والخيبات المتتالية. ولا يمكن قراءة الحداثة العربية تاريخيا وانطولوجيا من دون الوقوف طويلا امام هذا الحضور الطاغي والمؤثر. 

“ستختلف القراءات مع ذلك، وحتما ستختلف، في بيان القيمة المضافة التي يقدمها ادونيس في حقلي الشعر والنقد، لكنها لا تختلف في اجماعها على غزارة ثقافته وموسوعيتها، ورسوخه في التعامل مع اللغة تعاملا ابداعيا، القًا وفاعلية ونبضًا حيويًا، تحدوه شهوتان: شهوة الاصل وشهوة النقض والابدال “. يسعى للحداثة والتجاوز، لكنه يصر بالقدر نفسه على الأصول والتأصيل، والمطالبة الدائمة باعادة قراءة كل موروثنا القديم، وذلك ما يجعل البحث في عالمه، المتاحة بحثا مرهقا، وجب أن يتسلح له الباحث ويأخذ للامر عدته، من ادوات كاشفة واليات اجرائية تعد بالنفاذ الى شيء من حقيقته الغامضة، ونقده القائم على اللامنهج، فهو يكتب النقد كما يكتب القصيدة ولقد رأى الفيلسوف الالماني المعاصر مارتن هايدغر وهو يقرأ شعر ريلكه، صادقا انه غير مهيأ ولا مؤهل لأن منطقة انفتاح حوار بين الشعر والفكر لا يمكن أن تكون مضاءة مدركة ومفكرًا فيها الا بسبر بطيء ومتان. 

 

الصوفية ونص الحداثة 

الباحث سفيان زدادقة تناول عالم ادونيس شعرا ونقدا، في كتابه “الحقيقة والسراب” وفيه قراءة في البعد الصوفي عند ادونيس مرجعا وممارسة. إن الكتابة ممارسة فكرية وجمالية، تتأسس على علاقات المبدع بماضيه وعلاقاته بحاضره، وفكرته عن مستقبله، ورؤيته، كل ذلك في اطار اشمل، وفكرة الابداع نفسها من منظور فلسفي، هي محض نتاج لصلات المبدع والسلطة، على تفاوت انواع هذه السلطة ومستوياتها وطبيعة اشتغالها في كل مرحلة، حيث يتشكل ظل المعنى بين جدل جمالي مع الفكري، وحوار الثقافي مع السياسي، ولقاء الحاضر بالماضي، وقلق المتناقضات، وصيرورة الثابت الى المتحوّل، وابدال المركز مع هامشه، والتجاذب بين سلطة الكتابة وكتابة السلطة. 

وحسب اعتقاد الباحث لقد استخدمت لفظة الحداثة في الغرب لتعني مجموعة التيارات والمدارس والمذاهب الفلسفية والنقدية والادبية المختلفة التي كانت تهدف الى غاية واحدة وهي تقويض الصروح الفكرية القديمة التي عرفتها اوروبا، سالكة في هذا السبيل نزعات التجريد والفوضى والهدم، فظهرت مدارس الانطباعية والتكعيبيةوالمستقبلية والدادايية والسوريالية في الفن والادب، متاثرة بمكتشفات علم النفس الحديث. كما ظهرت مدارس الشكلانية والفينومينولوجيا والبنيوية والسيميايية والتفكيكيةوالهرمينوطيقا في الفلسفة والنقد متاثرة بمكاسب اللسانيات المعاصرة، فبرزت الى الوجود اجناس ونوازع جديدة مبتكرة كالكتابات النثر – شعرية والاشكال غير المنتظمةوالنص الالكتروني وغيرها.

إن ادونيس يجعل من الشعر هويته الخاصة التي تتجاوز كل هوية اخرى مكتسبة او مفروضة. إنه فاعلية التحوّل الاولى وشرارة الحريق في تبن مقولاتنا. إنه اللغة المشتركة للانسان في كل زمان ومكان. الانسان الباحث القلق، المنشطر والمتشظي، المهموم دوما بمشكلات اللامتناهي، وانشغال ادونيس الدائم بمشكلة علاقة الشاعر الحديث، بشكل خاص، بالماضي وعلاقة الثقافة العربية المعاصرة بشكل عام بالماضي، تجسيد باهر لمفارقة حادة تكمن في صلب الثقافة العربية، وهي استحالةالانفكاك عن الماضي في تياراته الرئيسية المكونة، ذلك أن ادونيس، جنبا الى جنب انشغاله بالماضي، هو الشاعر الاكثر تاكيدًا على ضرورة تجاوز الماضي، والاكثر تاكيدا على أن جوهر الحداثة والابداع والشعر، هو الانخطاف بالمستقبل والحركة نحوه، اذن، فما جدوى التحديث اذا ما رفض المجتمع وعامة الناس هذا المشروع، واقتصرت الحداثة على نخبوية اصطناعية؟ 

 

الشعر والتجربة الصوفية

لا فكاك من أن تتعقد العلاقة بين التصوّف والأدب بصفة عامة والشعر بصفة خاصة، علاقة مميزة قوية كرّسها الزمن والفعل والممارسة النصية المتواترة “فاهداف الصوفية تتفق الى حد بعيد مع اهداف الادب الانساني “. الصوفية تدعو الى السمو والارتفاع بالنفس البشرية فوق تفاهة الحياة اليومية، واهتمامات العالم الدنيوية الذي لا يرى من حياته سوى يومه المحدود بالزمان والمكان، و المهمة نفسها يحاولها الادب. فالمعروف أن الوحدة العضوية التي تميز الاعمال الادبية الناضجة هي عبارة عن تجسيد موضوعي لوحدة الكون التي تتمثل بصفة خاصة في علاقة الحب الصافي والنقي بين الخالق والمخلوق. فالتصوف باعتباره تجربة نفسية ووجودية ذات خصوصية دينية، لا يمكن أن يظل بعيدا عن الشعر. إن الشعر والتصوف كلاهما يقود الى عتبة العالم السري، فالحديث عن اهواء النفس الظاهرة والخفية، وشهوات القلب الواضحة والمضمرة، ونوازع الخير والشر، وما يترقرق بينهما من صور والوان تمتزج حينا وتفترق احيانا، تراث صوفي عجزت الفلسفة قديمها وجديدها عن أن تنازعه وهو وحده الذي امتلك الابداع الاعلى. والملاحظ، كما يرى الباحث، أن الشعراء الصوفيين يمزجون في نصوصهم بين التجربة الوجدانية وتلك الوجودية. ويجمع الشاعر في ذاته بين شخصية الصوفي، وشخصية الشاعر المشغول بوجدانياته واحاسيسه العاطفية، ساعيا الى جعل الشعر اداة للتعبير، مستخدما اللغة بطريقة فنية خاصة، تبقى على الرغم من جهده، اعجز من أن تحتوي التجربة وتجليها.

إن الشعرية كما يمارسها ويوظِّفها ادونيس، قد مارست التجريب، فكسرت الحاجز، والمألوف، كما فتحت افق استشراف المجهول، لكنها عرفت محطتين اساسيتين تتميز الواحدة منهما عن الاخرى، وهما علامتان مؤسستان للمشروع الشعري الادونيسي المتشابك. ويؤكد الباحث سفيان زدادقة أنه على الرغم من الحاح ادونيس على التصوف باعتباره مصدرا اصوليا من مصادر الابداع في ثقافتنا القديمة، إلا أنه لم يتعامل معه تعاملا دينيا كما هو في ذاته وكما يريد أن يقول نفسه باعتباره خطابا في العقيدة.

 

ولو أن الظروف اقتضت بقاءه على هامش التفكير العقدي. بدلا من ذلك اكتفى ادونيس بجزئية تخدم اطروحته التي تفترض اشتراك الصوفية مع السوريالية في قراءة الباطن و الشغف به، مسقطًا العلاقة بين التصوف والدين،  و”يستدعي ذلك أن تنقطع صلة التصوف عند ادونيس بالعقيدة الاسلامية “. وحين نتحدث عن تجربته الشعرية الصوفية فاننا نراه يفصل فصلا تاما بينها وبين أي عقيدة اخرى، محاولا استخدامها قناعا للدخول في المناخ الغيبي، وما يتطلبه المناخ من ابعاد تعبيرية. لقد حاول ادونيس دمج العلاقة بين الشعر والتصوف دمجا عرفيا، فالشعر لديه نوع من الوحدة التي يبحث فيها عن حل التناقضات في الوجود، عن طريق التجاوز والافلات من اسر العادي واليومي الى المطلق اللامحدود. بين عشق المرأة والعشق الالهي. 

ويشير الباحث الى أن ادونيس آمن، كما الصوفية من قبله، بالكشف، وبدا تدريجا في مواقفه يتحوّل من الانتصار للعقلانية والشك الديكارتي الى منحى آخر مختلف تماما، يميزه الاشراق ورفض المنطق وتقويض سلطة العقل والواقع، اذ يقول الباحث: ” نجد في شعره الكثير من النماذج الصوفية التي تمثل رموزًا للتمرد على الاعراف والفكر السائد، مثل الحلاج والنفري  والسهروردي، ويبدو أن لا شيء يتعلق بفكرة التمرد هذه واختراق الممنوع والمسكوت عنه اكثر من حديث الحب والمرأة، والجنس “. وهو يعتبر الجمال الحسي، كبعض الصوفية، عنصرا هاما يعكس الجمال الاعلى ويشكل منطلقا ضروريا للارتقاء الى معرفة جمال المطلق وبهاءه.

إن المتصوفة يؤكدون الانتقال من حب الجمال المادي الى الشكل الاعلى له، كشهود الانسان بالحق في المرأة أتم واجمل لأنه يشاهد الحق من حيث هو فاعل. إنما نظرة المتصوفة للمرأة انها ظلت بالنسبة للرجال مثالا للجمال الالهي، وفي الوقت ذاته انموذجا للاغراء الشيطاني، ولكي تحظى المرأة عند المتصوفة بتلك المكانة شبه المقدسة، اعتبرها بعضهم كالخيال – مرآة تعكس الحسن والجمال الالهيين، مما ينقلها من وضعها البشري الناسوتي.

 

ويعتقد الباحث أن عشق السورياليين كما الوجوديين، قيمة الحرية باعتبارها قيمة مطلقة، والانسان كما يؤكد جان بول سارتر ليس سوى ما يضعه من نفسه، لكن السورياليين تميزوا بذلك الربط العضوي بين الجسد والحرية، بين الرغبة والامكان، فرأوا أن الجسد بطبيعته الغريزية ينشد الحرية دوما، والعقل ايضا يميل من خلال الخيال والاحلام والفن الى الحرية، لذا فهي مطلب ذهني بقدر ما هي مطلب جسدي، فاصبح الفكر في نظرهم في خدمة الجسد، لذلك تمردوا على التعاليم الدينية والاخلاقية، ورأوا فيها احكامًا وقيمًا مسبقة معطلة، سلطة تكبل حرية الانسان وتحد من حركته، ويبدو ادونيس مشبعا بهذه الافكار والسياقات، اذ ما فتىء يشيد بالهامش والمحظور والمسكوت عنه. ولقد جعل “ادونيس الجسد والجنس اداة للتجاوز وخلخلة السائد، وتقويض سلطة المحظور”، والخروج منه الى واقع ميتافيزيقي، لأن الاستغراق في الجنس ينقل الانسان الى عالم آخر بعيد، متناسيًا ذاته المادية الواقعية على حد قوله. 

ادونيس يريد أن يتفلت من سلطة الشرع ويتحرر من تعاليمه، فيتقدم الجسد عنده على الروح، يعيش حالة هيام يشطح فيختفي ملكوت الجسد، وكأنه ليس من عالم الارض. اما العاشق الالهي، اذ يعشق موجودا لا محدودا، لا يتخلص هو من عالم الحدود والوسائط، انه يتخلص من جسده المتغير، ضرورة، وان ملأ الالهيون خطابهم بتصورات خيالية تتعلق بالروح وبعالم ما بعد الموت. انه لا يتخلص من الوسائط. فتحقيق الاتحاد بالمعشوق الأسمى ممتنع،لافراط هذا المعشوق في الغياب، أن كل شيء من السهل أن ينقلب الى لا شيء…

يحدد ادونيس علاقة الرؤيا بالتمرد، وتحديدا علاقتها بالتمرد على الشكل. ويوضح الباحث أن الشعر الصوفي القديم، قد تموضع على عظمته في البحور الخليلية دونما مشكلة، ولم يشتك الشعراء يوم ذاك من أن الشكل يعيق الرؤيا لديهم. واذا كنا نعترف بانهم كانوا اصحاب رؤيا فان رؤياهم هذه، باعتبارها تغييرا في نظام الاشياء، لم تدفعهم الى الخروج من بحور الشعر او حتى مجرد تغييرها بعض الشيء. الشعر الاندلسي مثلا، الذي على الرغم من بعده النسبي عن الروحانية بالمعنى الصوفي، انتج اشكالا شعرية جديدة، كالموشح على سبيل المثال، خرجت لأول مرة عن الاوزان التقليدية للشعر، فضلا عن خروجها عن مقتضيات عمود الشعر اصلا. 

 

يخرج ادونيس من جبة الرؤيا ايضا قضايا الغموض وانفلات المعنى والاحالة الى المجهول، فيقول:” معنى الشعر لم تعد وظيفة ذهنية، او فيضا عاطفيا، او جزءا من البلاغة والبيان، او وصفا، او طربا للمتعة والتسلية او التعزية.. صار الابداع الشعري الى وسيلة لاكتشاف نفسي، واكتشاف الانسان والعالم”. (Clonazepam)  

يرى الباحث سفيان زدادقة أن هذه النغمة الروحانية، بالرغم من انها غريبة عن ادونيس العقلاني، الا أن مجاسرته للغموض عبر الرؤيا تبدو غير مبررة. لنلحظ أن الصوفي يمكن أن يقتل التواصل مع الاخرين، فبعض الصوفية لم يكونوا حريصين جدا على التواصل بينهم وبين الاخرين عبر الشعر او عبر اي اداة ادبية اخرى، وقرروا أن يعيشوا لحظتهم الروحية دونما اهتمام كبير بنقل تجربتهم. لكن الشاعر خلاف الصوفي في هذه المسألة، أن المتلقي توأمه، وحاجته للقارىء تكافىء حاجته الشعر، والغموض اذا زاد عن حد المعقول، قد يقلب هذه العلاقة الى استحالة، وينغلق النص على مفاتيحه، أو يحيل، في كل ممارسة قرائية نعلنها ازاءه، الى فراغ. ” صحيح أن الشعر يكون احيانا تأسيسا، باللغة والرؤيا تأسيس عالم واتجاه لا عهد لنا بهما من قبل”، “إنه كشف وفتح”، حسب قول ادونيس، لكن اليس ضروريا أن يفتح لنا باتجاه قارئه كما يفتح باتجاه قائله؟. 

يميز ادونيس منطلقا من مفهوم الرؤيا بين نوعين من الشعراء، شاعر الثقافة الصناعية، وشاعر الرؤية، فالشاعر الصانع ينطلق من مهارة لغوية جامعة، في شاعرية استنساخ لأنها تقليد وتمثل لتجربة سابقة، وغايته القصوى أن يوازن بين شعره والشعر القديم بصفته مقياسا انموذجا، فيحكم له وعليه. 

اما شاعر الرؤية فسلاحه الشعور والوجدان، ولا يستخدم اللغة باعتبارها رهانًا إلا للكشف عن التجربة الشعورية ومداها، فهو أصدق كلما كان نقله لشعوره أدق وأكمل، بذلك تصبح القصيدة حقلا نباته التجربة وسقياه المشاعر …

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *