القصيدة التغايرية وولادة قصيدة الحركة

Views: 710

وفيق غريزي

يقول قدامة بن جعفر في كتابه نقد النثر: “الشاعر انما سمي شاعرًا لأنه يشعر من معاني القول واصابة الوصف بما لا يشعر به غيره، واذا كان، انما يستحق اسم الشاعر بما ذكرنا، فكل من كان خارجًا عن هذا الوصف فليس بشاعر، وإن أتى بكلام موزون مقفى. 

وفي هذا الاطار فثمة شعراء في لبنان والعالم العربي لم يعطوا حقهم في النقد والدراسة لما لهم من دور فاعل في تطور الحركة الشعرية. ومن هوًلاء الشاعر الصديق الراحل رياض فاخوري، الذي ساهم في اغناء الخطاب الشعري واللغة الشعرية والنص النقدي، نظريا وانتاجيا، فهو في نهجه ونظريته ونتاجه الشعري كالشتاء يثور على السلفية المتجًمدة، والتطور البعيد والمستورد مشوها، وهو بالمقابل كالربيع يحمل للاشجار الخضرة والثمر والخصوبة الدائمة، وللازهار الشذا والتألق والتفتح، فكانت نظرياته الشعرية فتحًا جديدًا في الحياة الأدبية، ومفتاحًا للمعرفة والحقيقة الجوهرية التي تكمن في اعماق المرئي من الموجودات فيقول: “إني اتمدد في التجربة تمددي في الكون الفالت على الحقيقة. والشاعر في هذا التمدد لا يخاف الدفق الذي يرميه تيارا في العاصفة”. 

 

ولادة نظرية قصيدة الحركة

لم تكن ولادة نظرية رياض فاخوري قصيدة الحركة ويليها الاثبات الشعري، التي ترتكز على الشعر التغايري ولادة فجائية او عفوية، بل هي وليدة تجربة طويلة استمرت عشرين سنة ونيف، من التفكير والتأمل والاختمار. لقد عايش الشاعر فاخوري في ريعان شبابه شعراء مجلة “شعر”  وربطته بهم وشائج الصداقة، وخاصة مع رائد الحركة الشاعريوسف الخال، وخلال هذه الفترة كتب مجموعته الشعري  “اصداف الصمت” التي لم تلق ايجابًا من يوسف الخال في البدء، ولكنه بعد عشر سنوات من صدورها قال الخال للشاعر فاخوري: “فلفشت مؤخرًا اصداف الصمت وقرأتها من زاوية شعرية ابداعية، فبدت لي مجموعة هامة سوف يتوقف عندها طويلا دارسو تطور الحركة الشعرية في لبنان”. ولكن عندما بدأت التناقضات تغزو اسرة مجلة “شعر”، ولا سيما بين ادونيس وشوقي ابي شقرا، وجد الشاعر نفسه وحيدًا، الأمر الذي فرض عليه الوقوف على الحياد، فيقول: “حيدت نفسي عن اشخاص شعراء كانوا يسعون الى أن يكونوا في الشعر اللبناني – العربي “شيوخ طريقة” او “بطاركة حداثة”، وهذا ما يانف منه الشعر والابداع والحرية الشخصية. وكل بداية موضوعية تبحث عن وجهها في التراث والاصالة “. 

وبعدما افترق ادونيس عن ” شعر” واصدر مجلته “مواقف”، وقف فاخوري الى جانبه، في مواجهة يوسف الخال ومجلة “شعر”، وبرر موقفه هذا بقوله: “وما وقوفي في مد 

“مواقف” ادونيس وتعاوني الأول معه وسمير الصايغ سوى قبول شخصي منا نحن الاثنين لأدونيس الشاعر المتحوّل الجريء، الرافض، والمغير، على الرغم من نرجسيته الخاصة التي كانت تسعى لكوكبة حولها تيار من الشباب الرافض عن تغايرية ما في النقد والشعر والثقافة العربية بعامة”. ولم يمض وقت طويل حتى وجد فاخوري نفسه على خط مناقض لخط ادونيس، فطلّق مجلة “مواقف” وعزا سبب ذلك الى أن ادونيس بدا له ومن خلال اصدار هذه المجلة، وكأنه يسعى للعب دور الخال في مجلة “شعر”، فاستقل. في غضون ذلك كان غارقا في خضم “لبنان الشاعر” مع صلاح لبكي، فقرأ مؤلفاته الشعرية “ارجوحة القمر”، و”مواعيد”، و”سام”، فتأثر بها عميقا.. وقال: “واحاكي هذه الجمالية المترفة، الجمالية التي ابدعت عطاءات كثيرة. واثرت في اكثر من شاعر، وانسربت عميقا في حداثة الخال – ادونيس كتابة مغايرة. او وعدا جديدا لتأسيس كتابة جديدة في مجلتي “شعر” و”مواقف”..

 

وليس غريبا أن تأثر فاخوري بهذا الشاعر المبدع. كان مغنيا دافيء الصوت، فاتر الكلمات والابيات. كان بواحًا يناجي الليل والمطر والمساء والرياح الخفيفة، كان يصلي لروحه وروح حبيبته واصدقائه وبلاده.

ولعل ما يسترعي انتباهنا، ونحن نهم بشعر صلاح لبكي أنه “لا يحاول قط أن يستن لنفسه نهجًا في الشعر، ولا يسوق اليك قمما من النظريات يحبسك فيها ويحبس نفسه، ولا أن يأتيك بالعوامل والدوافع والمبررات. ولا أن يبهرك باللمع الغامضة والماورائيات. بل كل ما هناك بوح وفوح، ومناخات طلقة، وغناء ينبجس حارا من الذات، من المناطق الحميمة فيها، فلا عبودية للفظة، ولا وثنية لبناء، ولا غوغاء احاسيس، ولا رسوب او ابتذال.

كما تأثر فاخوري ايضا بجبران خليل جبران، وعنه قال: “فجبران لي، كما لأي متأدب باحث عن تغايرية ما في صوته وتجربته، وفي وعده الأدبي المبكر كان يتراءى لي ابًا روحيًا، لأي حداثة، يفكر بها الخال وادونيس في الوزن، في النثر، او في اللغة ومدلولاتها الجديدة “. كان جبران بالنسبة الى رياض فاخوري والى الكثير غيرهم من الشعراء الشباب “ضجيج التمرد والعصيان”، فكان له محور الهم والتجربة، ومنحى عالم فاخوري الجديد-القديم، وعلى اساس “لبنان الشاعر” اللبكي – الجبراني، اقام صرح نظريته عن الشعر التغايرية.

ولبنان الشاعر التغايري المتجدد الآخر، يتواصل مع قديمه، ومن هذا القديم يكتب فاخوري عنه، ويحاول أن يكون منصفا حتى لعطاءات مجلة ” شعر” وكتابته ليست على حساب التغايرية الشعرية، التي يؤمن بها، والتي امن بها اسلافه الكبار، على اساس انها من ضمن تواصلية التراث النهًضوي العملاق الذي فرز هذه التجربة الشعرية الكبرى التي نتحدث عنها اليوم في ورشة الشعر العربي المعاصر وهذا ما يؤكده فاخوري بنفسه. 

اذا، أن فاخوري وعبر نظريته التغايرية يهدف الى مواجهة التغييرات التي طرأت على الشعر اللبناني -العربي، والى أن يكون محطة الكمالية واستمرارية للبنان الشاعر (لبكي -جبران -ابو شبكة – وغصوب) وغيرهم. 

 

الحداثة والتغايرية 

إن الشعر لم يكن في باديء الأمر سوى لاهوت رمزي، دخل الى عقول الناس بالامثال المسلية والملونة، الاسرار التي ما كانوا يستطيعون فهمها، عندما كانت تكشف لهم الحقيقة صراحة كما يقول رونسار. فاذا كان اصل الشعر إلهيا فانه يعطي بدوره للشاعر نوعا من الالوهة لانه يجعله خالدا. يقول رياض فاخوري التغايري: “الشعر مواجهة، والشاعر فعل هذه المواجهة، ولايجاد الخيط الموصل بين الشاعر والشعر، على اللغة أن تتحكم بحدس المطابقة والتعبير عن نمطية الواقع المنظور، باللاوعي العاقل”. والشاعر برأيه هو الذي يمسك بامور السماء والأرض. ينوجد في الحضرة واسطة وغاية للانسان المؤمن، والشاعر الذي يمتثل لارادة الوجود والعدم باستسلام كلي لا يعني ذرة في الكون. وفي قوله هذا يلتقي مع الشاعر الالماني الكبير غوته، الذي يؤكد انه لا يوجد الجمال الحق الا في ما لا فائدة منه. 

كل ما هو مقيد سمج، لانه تعبير عن حاجة ما، وحاجات الانسان هي دنيئة، ومقززة كطبيعته المسكينة المعقدة.. وكل فنان يقترح شيئا آخر غير الجمال ليس فنانا في نظره. وكان الفكر الرومانسي في القرن التاسع عشر يرتضي التقارب المستمر بين اكثر الاشياء تناقضا:

“إن الطبيعة والفن والشعر والنثر، والوصف والمسلي، والذكرى والحدس والافكار المجردة، والاحساسات المجردة، وما هو الهي، وما هو ارضي، والحياة والموت، تجتمع كلها وتتمازج باكثر الطرق حرارة في الفن الرومانسي. والاشكال الشعرية ليست مقدسة، ازلية في ثباتها، بل هي قابلة للتغيير تتطور وتموت، انها تتطور من حرية اولية الى جفاف، ثم الى نغم عديم الفائدة، لكن التطور الانساني بطيء ومستمر، واحلال الشعر الحر مكان النظم التقليدي، لا يشكل تطورًا وحسب، بل هو ثورة، فلكل عصر أدبه وفنه، والحضارة الانسانية تسير تصاعديا عبر الزمن والتاريخ، ولكل مرحلة تطورية -حضارية ادبها وشعرها وفنها ولغتها، مع الحفاظ على خصائص كل مجتمع، ومن دون الانقطاع عن الجذور الحضارية السابقة.

تقول الناقدة يمنى العيد: “إن الشكل الأدبي يتحدد بتحدد نمو الوعي الأدبي نفسه المشروط بظروف تاريخية واجتماعية متعددة ثقافية اقتصادية ونفسية.. وتحدد الشكل الأدبي ليس الا نضجه في وصوله الى ما يميزه او ما هو خاصته وطابعه المسيطر، هذا الوصول والنمو، ليس بسيطا، برعميا، ليس كمجرد وجود شيء كان صغيرا في طبيعة الكاتب، ثم نما وكبر، وكأنه ينمو في اناء مغلق.. بل على العكس أنه يتبع حركة صدامية تناقضية، تفسر في نهاية التحليل عملية تكوّن الوعي الأدبي، كوعي اجتماعي معقد، وهذه العملية هي الانفتاح على امكانات تطور عدة “.

 ويوًكد رياض فاخوري أن الجدة في الشعر هي بنت الوعي العقلاني للمعاصرة، لا نتيجة شعائرية كتبية دعوناها خطأً “حداثة” أو “جديدا”.

 

قصيدة النثر – الشعر النثر

الشعر الحر الذي اراد البعض ومنهم ادونيس تسميته “شعر النثر” او “الشعر النثري”، او “قصيدة النثر”، ليست حديثة، بل تمتد بجذورها الى عمق التاريخ، الى بلاد ما بين النهرين (العراق حاليا) وبلاد النيل، والتوراة العبرانية. 

يقول يوسف الخال عن الحداثة في الشعر: “الحداثة لا تعتبر مذهبا كغيره من المذاهب، بل هي حركة ابداع تماشي الحياة في تغيرها الدائم، ولا تكون وقفا على زمن دون الآخر، فحيثما يطرأ تغيير على الحياة التي نحياها فتتبدل نظرتنا الى الاشياء، يسارع الشعر الى التعبير عن ذلك بطرائق خارجة عن السلفي والمألوف، فالمضامين والاشكال تمشي جنبا الى جنب، لا في الشعر وحده، بل في مختلف حقول النشاط الانساني”. 

اما بالنسبة الى الشاعر رياض فاخوري ونظريته التغايرية، فان الحداثة “مشروع ناقص”، وقصده من ذلك أن “الحديث” يكون جزئيا وناقصًا دومًا، لأنه يتخلى عن الماضي في قمته، والحاضر في روعته، والمستقبل في اندفاعته، فبمعزل عن الماضي والحاضر في المستقبل لا جدة في الشعر ولا جديدًا، ولا حتى مغامرة مذهلة في الفنون والانسان والمجتمع، تقف عندها كل احداثية مغايرة في القصيدة، في اللوحة وفي النغم، تسعى لأن تكون عالما منفصلا في ذاته، او في تحفة للابداع، لا يضاهيها روعة سوى الجمال في ذاته. 

لقد نسي رياض فاخوري أنه في كل مدرسة شعرية قديما وحديثا ثمة شعراء خالدون، وثمة قصائد خالدة، وفي الوقت نفسه ثمة شعراء ماتوا في ذاكرة التاريخ وقصائدهم تناثرت في الفراغ واندثرت….

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *