وليد نجم…شاعر تشرينيّ ألهب وجدانه تحوّل الفصول ولعبة العمر والوقت!
أنطوان يزبك
يقول المتنبي :
وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كلّه
ولكن شعري فيك من نفسه شعر
دأب وليد نجم على كتابة القصائد والنصوص الأدبية، تنسّك في محراب الكلمة الشعريّة الراقية بعيدا عن نرجسيات الشعراء الذين ينشدون تكريمات وتبجيلات مزيّفة ، معتقدين أنهم سيحصلون على شهرة المعالفة أو الياس ابي شبكة أم إيليا أبي ماضي، وهو بذلك عمل بهدوء واتزان على إبراز منطق جديد يحوّل الكتابة الشعرية من كتابة تقليدية إلى كتابة جماليّة مكتفية بذاتها، لا تتوخى اوهاما وخيالات ظلّ تذوب مع بزوغ شمس النهار بعد ليلة سمر ،حتى تصمد في زمن عابر و تستمرّ !
ومن ميزات وليد نجم الإيجابيّة ايضا انّه لم يتعامل مع الأدب بعقليّة جامدة ومتاريس وهميّة برزت لدى شعراء كثر، فكان منهم من انتصر للفصحى وحارب اللغة المحكية أو نعى الفصحى وطالب بكتابة الشعر بالعاميةّ المحكية المطلقة ؛ بل على العكس، استعمل في شعره أجمل ما في اللغة العربية الفصحى والعامية اللبنانية المحكية، من معان سامية ونبضات شعرية، وهو بذلك تعمّد استبطان المعاني والصور في العامية والفصحى على السواء، ليجعل من نسيج يراعه شعرا بحلّة جديدة ولغة مكينة بليغة ، بيد أنها غير معقدة ولا تستعمل مفردات بائدة معقدة عصيّة على الفهم، كما يفعل بعض شعراء الفصحى في الآونة الأخيرة، وهو بذلك شقّ طريقه إلى شعر القرن الواحد والعشرين بثقة واتّزان.
من يقرأ قصائد وليد نجم، يدرك أنه يتنفّس الشعر مع الهواء ، وهو الباحث دوما عن قضية ونمط لشعره ومهمّة مقدّسة ، مذكرا بما قاله الشاعر الكبير الرومنطيقي الإنكليزي بيرسي بيش شيلي : “مهمة الشعر ، تكمن في رفع النقاب عن الجمال المخبوء ، واعادة صياغة رؤيتنا للجماليات”.
وعلى ما يبدو ، رفع وليد نجم النقاب عن الجمال وعن كل ما هو نقي وصاف وكل ما هو “عندليبي”، ذلك أن الشاعر استعمل قالبا جماليا وأدبيا رفيعا يخترق قلب المتلقي ووجدانه بهدوء وامتنان .
في قصيدة “ما أروع الحبّ” من ديوانه “والعين ناطقة” يقول وليد نجم:
ما أروع الحب من عينيك اسرقه
يخفيه في خفقة قلبي ويحرقه
عيناك شمس بأنوار مشعشعة
في كل روض سناء النور تسرقه
………..
ويتابع قائلا:
هل تعرفين بأن الحب في عجب
من سابح ليس يخشى البحر يغرقه…
هذه القصيدة هي غيض من فيض من كتابات وليد نجم، لكنّها تعبير صادق عن أسلوبه المرن، ومرآة تعكس المشاعر الصادقة وراء عملية التّشكيل الشعري للصور الحقيقية، صور صيغت بلغة حديثة ، ترويها كلمات من نسغ جديد منعش ، والشاعر مدرك تماما ، أنّه ليس من الصعب أن نكتب متى ملكنا ناصية القوافي وخضنا لجج بحور الشعر، لكن من الصعوبة بمكان أن نضمن النجاح للقصيدة ومكانتها ، وهنا مهارة الكتابة الدّالة على معان تضمن للقصيدة الاستمرار في ميدان الشعر الشائك والصعب، خاصة بوجود هذه الهجمة على الكتابة حيث يختلط الغث بالثمين!!..
يقول المفكر ايميل سيوران : “لا يتقدم ويتطور الذهن ، إلا إذا كان يمتلك نعمة الصبر حتى يدور في مكانه ويتعمّق” .
الصبر والتعمق هما فعلا من الصفات التي يمتلكها وليد نجم، فهو سيد الصبر وشيخ المتعمّقين من العقلاء الصامتين المتأمّلين القانعين الورعين المنزرعين كسنديانة شامخة تحت سماء قريته الشاسعة الواسعة شبطين!
ومن يقرأ قصائد وليد نجم يجد ، من دون أي تردد أن لـ تشرين في قلبه ووجدانه مواعيد ومحطات كبرى ، متنوّعة ومتواصلة، ففي قصيدة “غيمة بتشرين” يقول:
أنا بتشرين هلغيمة السخيّة
منحني البحر لمساتو الطرية
تركها تطير تطلع في سماها
تتنزل دمع ع خدود الصبية…
يشكل الارتباط العضوي والروحي بين البحر والغيمة وخدّ الصبيةصورة صارخة لفلسفة المادة والروح ونزاع العناصر وتلاقحها وتمازجها في صهّارة الوجود ، وطاحونة الأيام ومخّاضة الكائنات البشرية التي تصارع في هذا العالم الغامض والمحاصر بعشرات الألغاز !
وفي قصيدة “بمرجة مبللة “يتماهى الشاعر مع عناصر الطبيعة ويسبغ عليها مشاعره وأحاسيسه، إذ يقول:
أنا وتشرين والخير وصباحو
بمرجة مبللة طير وجناحو
دواري تدور تلعب ع مداها
طربني بلبل بصوتو وصداحو
تتوعى الشمس عم تدري رداها…
وكذلك في قصيدة أخرى يقول:
غلّت سنين العمر سلّة مشكّلة
تاري شتي تشرين شتّث أمنيات…
كما يصف طائر النورس في شهر تشرين. .
وفي قصيدة الملعب وايامو يقول أيضا :
كان عمري تحت العشرين
شو اللي جابك يا تشرين؟!
وفي قصيدة عنوانها : تياب تشرين يقول :
شهر تشرين لبّسني تيابو
تعرّا الغصن من شرشف ضبابو ..
تدلّنا هذه النماذج على “تشرينية” وليد نجم ، وتحملنا كل قصيدة في رحلة وسفر إلى عالم زاهٍ ، عالم من الحب ونوازع المراهقة والشباب والعودة إلى أيام من طمأنينة بتنا نفتقدها .
مرة أخرى يثبت وليد نجم ان كتابة ما يسمّى بشعر الخواطر والثرثرة والهذيانات السحرية على الورق ليس بمغامرة حميدة ، بل الأجدى ترك الشعر المقنع والمقبول في معادلة الأدب والحقيقة إلى الشعراء الحقيقيين!…
وفي الخاتمة أقول لوليد الأخ والصديق الذي اعتز بصداقته مستعينا ببيت لابن الرومي :
وفيك أحسن ما تسمو النفوس له
فأين يرغب عنك السمع والبصر !…