سعيد عقل آخر أُمراء الشعر العربي حقًا!!
وفيق غريزي
سعيد عقل، الذي رحل عن عمر تجاوز المئة عام، وقبل رحيله بسنوات معدودات، اصدر ديوانين جديدين عن جامعة سيدة اللويزة، الاول تحت عنوان “نحت في الضوء” والثاني “شرر”، وفي طيّات كل منهما تسكن القصيدة على القلق، كأن الريح تدفعنا يمينا او يسارا في اتجاه مملكة الضوء. الصديق الذي احب واحترم الشاعر لامع الحر، وعبر كتابه “سعيد عقل آخر امراء الشعر العربي”، رأى أن شعر سعيد عقل في صياغاته تجليات البلاغة العربية، تنهل من اعماقها، من فرادتها، من ابتكاراتها الرائعة، وتثور عليها في الآن نفسه، وتتمرد، خالقة نسيجها الذي لا يجاريه نسيج. في ديوان “شرر” ومضات أو ما نسميه اليوم قصيدة الومضة. أما الديوان الثاني “نحت فًي الضوء” فنجد شاعرية تتوهّج، تذكِّر بما كان للشاعر من تجليات في “كما الاعمدة “، شاعرية تستلهم من المناسبات ما يشكل خروجًا على المناسبات، وكأنها تغرف من نبع ابداع لا ينضب حسب قول المؤلف.
لا يمكن أن نقرأ ديواني عقل بمعزل عن توجّهات المدرسة الرمزية، ولاسيما الرمزية الفرنسية، رغم أنها ليست انتاجًا فرنسيًا صافيًا، بل هي نتيجة تأثر الشاعران شارل بودلير ومالارميه بالشاعر الاميركي ادغار الن بو، الذي رأى أن الشعر هو الخلق الايقاعي للجمال. يقول الشاعر لامع الحر:
“على الرغم من أن الرمزية الفرنسية كانت رد فعل ضد الرومانطيقية، إلا أن قصائد سعيد عقل جمعت احيانًا الرمزية والرومانطيقية، التي تتجلى اكثر ما تتجلى في الطبيعة اللبنانية على وجه التحديد التي استعادتها من الطبيعة مفردات متعددة”.
سعيد عقل والمرأة
المرأة في ديواني سعيد عقل امرأة الجمال الخالص، امرأة الوجود غير الموجود، امرأة الخيال البعيد، امرأة الحب الذي لا يتكرر ولا يدرك بالحواس. سعيد عقل في عمره المديد خاطب المرأة بلغة الشباب كان نار الهوى، ونار الشوق، ونار الاحساس بالجمال، لا تزال مستعرة، ويعي أن ذلك الأمر غير عادي. ويشير لامع الحر، الى أن سعيد عقل لا يميل في غزله الى ما هو مادي، ثمة غالبا شموخ، ثم قوة، او تغلب على ما هو آني، وان باح بشيء من ذلك، فالبوح خاطرة تمر في البال رويا أو حلمًا جميلا، والجمال لا يستمتع به الجسد والنظر والحواس، بل ليسكر به القلم.
يرفع سعيد عقل دوما من شأن المرأة، لا يأتي على ذكر نقائصها او صغائرها او ما يعتبره بشاعة. ولا يرى، حسب اعتقاد الحر، في البشاعة شعرًا يمقتها ولا يستعذبها في الشعر، الشعر بحثا عن الجمال، ولهذا يختلف عن بودلير ونزار قباني والياس ابو شبكة. ينأى الشاعر بالمرأة عن الواقع، ينسج عالمه السعيد بعيدًا عن كربلائيات الحياة المستمرة، ويجعل منها حينًا أميرة وحينًا خالقته وسيدة عالمه الجميل بلا منازع. يقول لامع الحر: “إن سعيد عقل ينساب في غزله كالماء، يبدو العالم مسرح غناء وطرب، وحالة انصهار في جمال الليل والعود والصمت. وتصبح الطبيعة جزءًا من سحر الحبيبة، ويصبح عاشقًا بكل جوارحه فيمتليء بالهواء البعيد عن الدنس، والماثل امام الملأ روحًا تتكشف رؤى ابداعية جميلة”. إن عقل لا يسيء الى المرأة وان اساءت، لا يحوِّل جمالها الى بشاعة، وان لم تصن قدسية جمالها. لا يجرّها الى مقام يحط من قدرها، يتعامل معها بتسامح لا يملكه إلا رجل ذو كبرياء وشهامة، ولا يسيء وان تخابثت، ولكن اذا كان هذا صحيحًا فكيف ماتت المرأة التي احبته وتزوجها، وموتها ما زال غامضا، ويترك علامات استفهام كثيرة.
ويشير لامع الحر الى أن المرأة في ديواني سعيد عقل المذكورين اعلاه، صورة جمالية اقرب الى الخيال منها الى الواقع، ذلك لأنها المثال المنشود والموجود في الميتافيزيقا، في اللاوعي. وللعاطفة مكانة كبيرة لدى سعيد عقل، وهاهو يقول: “العاطفة شيء ضروري في الشعر،إي انسان يحب أن يكون عاطفيًا، لكن الشاعر يجب أن يكون لديه ما هو اكبر من العاطفة، يجب أن يكون لديه جمال وسحر وشيء جديد لم يخطر ببال أحد سابقا، اذا طلبت من الشاعر عاطفة يقول لك: كل الشعراء كانت لديهم عاطفة، لا يستطيع الشاعر أن يكتب سطرا بلا عاطفة، ويتساءل: هل هناك احد بلا عاطفة؟ فاذا طلبنا منه عاطفة، لا نكون قد طلبنا منه شيئا، لا يتمكن الانسان من فتح فمه بغير عاطفة”. وبما أن سعيد عقل يرى أن شعر الحب يكاد يكون وحده هو الشعر، فلذلك نرى انه يكثر من الغزل في نصوص دواوينه باسلوب راق، لا يسف، ولا يحط من قدر المرأة، ومن احترامها، ومن كينونتها، التي تسمو على كل كينونة اخرى. هذا نظريا قد يكون الواقع نقيضا لهذا.
اخطاء سعيد عقل
سعيد عقل شاعر بكل معنى الكلمة، لكن لديه اخطاء او خطايا لا تغتفر، كان من المفترض أن لا تصدر عنه، لأنها اساءت اليه اكثر مما اساءت الى الآخرين. ويعتقد المؤلف لامع الحر، أن هذا الشاعر منذ أن شعر أن العرب غير متحمسين لتتويجه اميرًا للشعر، راح يدعو الى اللغة العامية المكتوبة بالحرف اللاتيني، والتي تعني القضاء على اللغة العربية، التي صمدت بوجه كل الغزوات الاستعمارية، والتي حافظت بدورها على العرب كأمة، لها وجودها وحضارتها الممتدة في التاريخ، على الرغم مما نحن عليه الآن من تخلف، وضعف، وانحلال.
عقدة جنون العظمة الهشة
الداء الأكبر الذي اصيب به سعيد عقل، جراء الشعور بالدونية الموروث من البيئة العائلية، وقسوة الوالد عليه، ولتغطية هذا الشعور، كان جنون العظمة، حتى بأن يدّعي أنه اسطورة لم ينجب التاريخ مثيلا لها، ويرى نفسه فوق جميع البشر، والمبدعين، ومن يمدحه، ينال بركته وتقديره، ومن ينتقده تنهال عليه اللعنات والاحقاد، وها هو يقول: “اللافت في شعري أن فيه غرابة وجمالا غير موجود في الشعر الاوروبي كله، أي شعر اثينا وروما وفرنسا، وأنا أعرف شعرهم جيدا، ورغم ذلك ليس لديهم شعر بهذه اللعبة، هذا الأمر يبقى في بالي، فافتخر لأنني كتبت شعرًا غير مكتوب في ثلاث لغات تمتلك اجمل شعر في العالم واعظمه (اثينا وروما وفرنسا)، انتجوا شعرا هو الأجمل في العالم”. ورغم ذلك فانهم بنظره لا يعادلون شيئا قياسا بشعره، انه تواضع لا يعادله تواضع لا قديما ولا حديثا.
وينقل الحر عن سعيد عقل تمنيه أن يكون شعره قد اثّر يوما ما على الشعر في العالم. وكأن يريد أن ينتج شعرا مثل شعره، وافضل وأنه لا يقبل أن يبقى الشعر صغيرا، من الضروري أن يكبر ليصير بحجم قامته العملاقة.
وإذا كان سعيد عقل شاعرًا اسطوريًا كما يزعم واهمًا، فعليه أن يؤثّر، ويترك شعرًا عظيما حقا، وهو لا يقبل أن يقف الشعر عند حدود شعره. وردا على اتهامه بالرمزية، يؤكد أن هناك مدرسة رمزية، والرمزية تمثل شيئا صغيرا من شعر سعيد عقل اكبر ويقول : “هناك لعبات شعرية تخرج على أي نطاق معروف، الشعر بشكل عام يحتاج الى جمال، والى غرابة، والى شيء غير موجود، وليس كل الشعر في العالم تتوافر فيه هذه الشروط”، وبالطبع يعني (واهمًا) المتوفرة فقط في شعره. ويزعم سعيد عقل متبجحا بأن شعراء المدارس لا يمتلكون هذه اللعبات، كل عصر يجب أن ينتج شعراء يمتلكون ميزات غير موجودة في الكتب التي تتناول الشعر، لا نستطيع أن نقول هذا شاعر رمزي، وهذا كلاسيكي. هذا أمر خطير على الشعر، علينا أن نطالب بامور اخرى لكي يقال عن الشعر هذا شيء خارج على كل المدارس، هذه مدرسة غريبة عجيبة. ويصرخ بكبرياء اجوف: “اذا كان شعري فقط الاشياء الموجودة في كل شعر العالم، يكون سعيد عقل ليس عظيما، يجب أن يكون شعري فيه شيء من المدارس المشهورة في الشعر، وشيء جديد على مستوى الشعر العالمي”.
وجنون العظمة النابع من الاوهام والتخيلات والشعور بالدونية، جعل سعيد عقل يعتقد أن الحياة لم تنجب عبقريا مثله، لا قديما ولا حاضرا، ولن تنجب مثله مستقبلا، لأنها بعد ولادته اصيبت بالعقم.
وردا على سؤال يقول سعيد عقل مهلوسًا:
“هل هناك اشخاص يقرأون شعرًا لمبدع في لبنان كما يقرأون لي، وهل هناك اشخاص من بلدان أخرى يحكون عن شاعر مثلما يحكون علي؟” اجل ايها المغرور هناك اشخاص يجهلون وجودك، ويقرأون لمبدعين مثل جبران، مخاييل نعيمة وابو شبكة والخال وفؤاد رفقة وادونيس والاخطل الصغير، وامين نخلة، وغيرهم وغيرهم، اكثر بالاف المرات مما يقرأون لك، ولا يقف عند هذا الحد من جنون العظمة والهلوسة، بل هو يقول لمحاوره لامع الحر:
“أنا لا أريد أن اقول انا اخلد شاعر عند العرب، هل هناك شعراء كثر يروى لهم شعر بقدر ما يروى لسعيد عقل … هل هناك شعراء روي لهم شعر بمئات القصائد كسعيد عقل، اذا كان هناك شعراء دلني عليهم ؟” إن هذه الانتصارات الوهمية اعمت بصيرته وعقله عن رؤية الواقع كما هو والمناقض لهذه الهلوسات والتخيلات، ونحن نسأل: هل كتب عن سعيد عقل أقل من ربع ما كتب عن جبران وادونيس ونعيمة وغيرهم. والجنون المرضي صوّر له أن المتنبي لديه شعر مقدّس ومكرّم ومعظمه مثل شعره هو، ويعتقد أن شعره اعمق من شعر المتنبي.
واحب سعيد عقل من الشعراء نزار قباني ليس لأنه اعطى شعرًا جميلا، بل لأنه مدح سعيد عقل، حيث قال نزار: “سعيد عقل اكبر شاعر لدى العرب اذا كان يرضى”. فاجابه سعيد عقل: “لا يا نزار، انا افاخر بذلك لكن (اذا كان يرضى) هذه الكلمة فيها كبرياء ولذلك بشعة، أنا أكون سعيد عندما يقول العرب عني باني افضل شاعر”.
ولأنه كان يعيش في عالم الخيال والأوهام، لم يعلم بأن الكثير من مادحيه كانوا يهزأون ويسخرون منه، لأنه يعتقد واهمًا أنه من طينة الآلهة وليس من طينة البشر.
سعيد عقل والحداثة
إن الحداثة الغربية يزعم البعض أن الشاعر الفرنسي المعجزة ارثور رامبو هو ابوها، ولكن سعيد عقل لا يبحث في الحداثة، وحسب رأيه الحداثة كلمة بشعة كثيرا، وهو لا يتحدث عن الحداثة، فالحداثة في قاموسه تعني الموضة، هوميروس لم يكن على الموضة، وفاليري ما كان على الموضة، هذه الكلمة يجب أن تلغى. إن سعيد عقل يريد أن يضع العالم في براد كي لا يتقدم، او يتطور، وهو يناقض نفسه، مرة يقول إن لكل عصر شعراءه ومرة يعلن عداءه للحداثة والتطور، ففي رأيه لا حداثة في الأدب العظيم، الأدب العظيم هو الأدب العظيم، ولا تعني الحداثة على اساس أن غيرها ليس حديثا. ووصل به الغرور الى حد يحتقر به وليم شكسبير ويجرّده من عبقريته.
وهذا أن دل على شيء فهو يدل على أن سعيد عقل يحقد على كل عبقري خلده التاريخ، لأنه قد لا يكون خالدا مثل الخالدين، ويقول عن شكسبير: “لديه كتاب ماكبث، انا احتقره، لماذا؟ زوجة ملك عشقت اخ زوجها، وقتلت هي واخ زوجها الملك، انا لا اخصص لهذا نصف بيت شعر، ما هذا الشاعر الذي يخصص شعرا سيئا لمثل هذا الأمر، وهو مزعوم أنه اكبر شاعر في انكلترا، هذا الأمر لا احبه”. كما أن سعيد عقل لا يعتبر كبار الشعراء الغربيين من امثال : هولدرلن وريلكه وسان جون برس وكورناي وناظم حكمت وايلوار وغيرهم. سعيد عقل رهين احلام اليقظة واحلام النوم والهلوسة، يتخيل الامور التي تخدمه، ويبني عليها امجاده، انه دون كيشوت لبنان الذي يحارب بأوهامه وكأنه يحارب العالم، ويتوهّم أنه مركز الكون، والعالم يسير وفق مشيئته وفي فلكه، واذا خالف فهو عالم ميئوس منه. إن الصديق الشاعر لامع الحر كشف في كتابه هذا حقيقة هذا المريض بجنون العظمة الذي مات ولم يجد دواء لمرضه.
سلم قلمك أيها الحبيب لامع لانك اصبت الهدف…