حين تصبح الطائفيّة شرّ الشرور؟

Views: 740

د. مشير عون

(السبت 2 تشرين الثاني 2019)

كلّ إنسان يحمل في ذاته آثار التصوّرات الكبرى التي تعتنقها الجماعة التي ينشأ فيها، وفيها يترعرع وينتصب فردًا حرًّا مسؤولًا. وقد يخرج غيرُ واحد منّا على جماعته وتصوّراتها. بيد أنّ الثابت في هذا كلّه ضرورة الانتماء. حتّى اللامنتمون لا يبرحون ينتمون إلى أفق اللاانتماء الذي يطبع فكرهم وقولهم وفعلهم. أقول هذا كلَّه لأبيّن أنّ الفكر السياسيّ المعاصر لا يدين الطائفيّة ولا يمتدحها، بل يجتهد في استجلاء صورة المجتمع المعاصر الذي ينبغي له أن يحتضن الأفراد وجماعاتهم احتضانًا قانونيًّا يتيح للأفراد أن ينعموا بحرّيّتهم الذاتيّة، وأن يُنعشوا فيهم الاقتناعات المستخرجة من تصوّرات الحقّ والخير والصلاح التي يستحسنونها في جماعتهم أو في أيّ جماعة أخرى. 

ومن ثمّ، يمكن المجتمعات المعاصرة أن تسوِّغ نشوءَ جماعاتٍ متمايزة تدّعي أنّها تحمل في تقاليدها وأعرافها ومخزونها الفكريّ ضمّةً من التصوّرات الإنسانيّة الأنتروبولوجيّة الشاملة تجعلها تتحسّس معاني الحياة وتختبر مقاصد الوجود على غير ما يذهب إليه الآخرون. فلا ضير في ذلك كلّه. المشكلة تنشأ حين تدّعي هذه الجماعات أنّه يحقّ لها، بمقتضى شرعٍ إلهيّ أو غيبيّ أو مأثور متواتر، أن تُطوِّع المجال العامّ المشترك في المدينة الإنسانيّة وتُخضعه لتصوّراتها، وأن تنفرد بتشريع خاصّ يناقض شرعة حقوق الإنسان الكونيّة.

عند هذا المنعطف ينقلب المجتمعُ الذي يحتض هذه الجماعات مجتمعًا طائفيًّا. ولبنان هو من المجتمعات الطائفيّة على نحو متميّز لأنّ اللبنانيّين ما برحوا يُحشَرون في انتمائهم الطائفيّ الذي يتقدّم على انتمائهم الوطنيّ. ولذلك ازدهرت في لبنان أصنافٌ شتّى من الطائفيّة، أحصي منها أربعة. أوّلها الطائفيّة الدينيّة التي تجعل التنوّع الروحيّ سببًا للتصارع والاحتراب. ثانيها الطائفيّة الثقافيّة التي تجعل التنوّع الفكريّ بين الأنظومات الدينيّة سببًا للتناقض في إدراك مفهوم الإنسان ومقامه ودعوته. ثالثها الطائفيّة الاجتماعيّة التي تجعل الاختلاف الدينيّ سببًا للتكتّل الانزوائيّ والعصبيّة الجماعيّة والتمايز المسلكيّ. رابعها وآخِرها الطائفيّة السياسيّة التي تجعل هذه الأصناف الثلاثة من الطائفيّة سببًا لاقتسام السلطة بحسب أحجام التكتّلات الاجتماعيّة الطائفيّة.

 

واضحٌ أنّ هذه الأصناف الأربعة من الطائفيّة تشوّه الاختبار الإيمانيّ الروحيّ الفرديّ الذاتيّ الحرّ، وتشوّه معاني التديّن، وتشوّه علاقة المتديّنين بالاجتماع الإنسانيّ. وواضحٌ أيضًا أنّ المجتمع اللبنانيّ ابتُلي بهذه الأصناف الأربعة من جرّاء تقاعس السلطتين الدينيّة والسياسيّة عن تحرير الإنسان اللبنانيّ في فرديّته الحرّة. فالمكتسبات الأيديولوجيّة والاقتصاديّة والماليّة تَصدّ أصحاب السلطان عن إعتاق الإنسان اللبنانيّ من نير الطائفيّة. فلا المحاكم الدينيّة تريد التخلّي عن امتيازاتها ومنافعها، ولا الأحزاب الطائفيّة تروم التجرّد من أفتك الأسلحة تحشيدًا للمناصرين واستقواءً على المنافسين. فلا رجاء يُرتجَى من هاتين السلطتين !

ومن ثمّ، فإنّ خلاص الاجتماع اللبنانيّ لن يتحقّق إلّا إذا ميّز اللبنانيّون بين اختبارهم الروحيّ الإيمانيّ أو اللاإيمانيّ الذاتيّ وأحكام الانتظام الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ والإداريّ والتقنيّ الذي تقتضيه المعيّةُ الإنسانيّة الناشطة في نطاق الدولة المبنيّة على شرعة حقوق الإنسان الكونيّة. ما من إنسان يحيا مجرَّدًا من تصوّرات الحقّ والخير والصلاح. غير أنّ هذه التصوّرات لا يجوز لها أن تناقض مبادئ حياديّة المجال العامّ، ومبادئ حياديّة الدولة العادلة ومؤسّساتها. هي الدولة وحدها تصون الحرّيّات الأساسيّة، وتتيح لكلّ مواطن أن يختبر معنى وجوده في نطاق الانتماءات الفرعيّة التي يَستنسبها. فليكن للّبنانيّين بطاقةُ هويّة وطنيّة واحدة تجمعهم في وثاق إنسانيّ وطيد. وليكن لهم بطاقاتُ انتماءٍ أخرى تتجلّى فيها انتماءاتهم الحرّة إلى منتدياتهم الفكريّة، وجماعاتهم الدينيّة، وأحزابهم السياسيّة، ونواديهم الرياضيّة، ومصارفهم الماليّة، وتجمّعاتهم النقابيّة، وهيئاتهم المهنيّة، وأحلافهم الفنّيّة التذوّقيّة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *