سجلوا عندكم

ليبيا أحد عشر عاماً بعد القذّافي

Views: 136

د. يوسف الصوّاني*

مرَّت على ليبيا، وتحديداً الشهر الفائت، الذكرى الحادية عشرة لإسقاط نظام القذّافي بانتصار الانتفاضة الشعبيّة التي انطلقت في السابع عشر من شباط/ فبراير 2011، معزَّزة بتدخُّلٍ خارجي لَعِبَ الدَّورَ الحاسم في القضاء على المقدّرات العسكريّة والأمنيّة، ليفتحَ البابَ على مصراعَيْه أمام ليبيا واللّيبيّين ليَلِجوا زمناً جديداً. فقد حرَّكَ سقوط نظام القذّافي الآمال في أنّ ليبيا، التي تمتاز بقلّة عدد سكّانها في مقابل الموارد الطبيعيّة الهائلة، ستتحوّل بسلاسة ويسر نحو تحقيق الآمال في أن تُصبح دولة ديمقراطيّة جديدة مزدهرة. وبهذه المناسبة، من المفيد أن نلقي نظرة متفحّصة على ليبيا اليوم، وأن نسعى لتفهُّم حقيقة ما يجري وأسبابه ودوافعه.

بينما عبَّر السابع عشر من شباط/ فبراير عن انتصار القوى المطالبة بالتغيير، كان التدخُّل الخارجي عاملاً أساسيّاً في معارضة قطاعات عريضة من اللّيبيّين التي اضطرَّت إمّا لأخذ موقف الحياد أو، في حالات أخرى، الدّفاع عن النّظام. ومع أنّ ما حصل أدّى إلى انقسام اللّيبيّين بين مؤيِّدٍ ومعارِض أو باللّهجة المحليّة إلى ثوّار وأزلام، فإنّ هذا الانقسام لم يكُن ليؤدّي إلى حالة الصراع والموجات المتتالية من الحروب أو الصراعات المسلَّحة لولا أنّ مفاعيل التدخُّل الخارجي واصَلتْ فعلَها لتُحدِثَ انقساماتٍ أكثر وطأة ونزاعاتٍ أكثر حدّة وآثاراً من تلك التي تولَّدت عن الصراع الذي دار لمدّة ثمانية أشهر في العام 2011 وانتهى بإسقاط النِّظام كما ذكرنا.

عملَ التدخُّل الخارجي أو الأجنبي على تقسيم اللّيبيّين، ولم يولِ القادةُ الجُدد الحرصَ المناسب على رأب الصدع والحدّ من التدخُّل الأجنبي، بل إنّ بعض القوى بذلت جهداً غير محمود في إضافة بُعدٍ تقسيميٍّ آخر. أَصدر المجلس الوطني الانتقالي في العام 2011 دستوراً انتقاليّاً لم يُعالِج قضايا الصراع بل زادها عمقاً. أمّا ما يُسمّى بالمجتمع الدولي والأُمم المتّحدة، فقد سارعت من دون أدنى مُراعاةٍ للواقع إلى تطبيق أجندة اللّيبراليّة الجديدة في ليبيا انطلاقاً من الانتخابات البرلمانيّة. ونتيجةً لذلك، تمّ إجراء أوّل انتخابات في ليبيا لأوّل برلمان (سُمّي المؤتمر الوطني العامّ) بعد عقودٍ من الاستبداد في العام 2012، ولم تشارك في تلك الانتخابات قطاعاتٌ عريضة من اللّيبيّين، كما أُجهض خيار مَن شاركَ فيها لاحقاً. لذا فإنّ التوقّعات والآمال سرعان ما تحطّمت على صخرة الواقع، حيث فشلَ المؤتمرُ الوطني العامّ في التعبير عن تطلّعات كلّ اللّيبيّين، وقادت مُمارساته الانتقاميّة أحياناً إلى استنكارٍ شعبيٍّ واسع النطاق، فاضطرّ بعد انتهاء ولايته إلى إجراء انتخاباتٍ جديدة في العام 2014. مرّة أخرى دَفعت الأُممُ المتّحدة نحو انتخاباتٍ جديدة في وسط تحدّياتٍ أمنيّة وسياسيّة وتزايُدِ الخلافات والصراعات، وفي مقدّمتها تلك التي جرت بسبب الممارسات الإقصائيّة للإسلاميّين، وأيضاً بما كان للحملة العسكريّة والسياسيّة المعروفة بـ “عمليّة الكرامة” التي يقودها المشير خليفة حفتر في مواجهتهم، وبقصد السيطرة على البلاد من آثار سلبيّة.

هكذا تبلورت تلك الصراعات في مُواجَهةٍ متّسعة ومتنامية، وصولاً إلى ما سُمّي بعمليّة أو حرب طرابلس التي أَطلقها الجيش الوطني اللّيبي بقيادة حفتر للسيطرة على طرابلس في 4 نيسان/ إبريل 2019 ولتستمرّ نحو عامٍ ونصف العام حتّى حزيران/ يونيو 2020. كانت هذه الحرب نتيجة التدخُّل الأجنبي، وعلاوة على الأضرار التي ألحقتها بما هو كلّ ليبي، فقد أدّت أيضاً إلى تزايُد وتيرة التدخّل الخارجي ليدخل النّزاع اللّيبي في بؤرة صراع إقليمي ودولي أكثر تعقيداً، مع ارتباط أزمة البلاد بقضايا أخرى، ليس أقلّها الصراع على موارد الطّاقة في البحر المتوسّط.

فشلت جهودُ الأُمم المتّحدة وبعثتها للدعم في ليبيا في نقل البلاد من حال الصراع الأهلي المتمادي إلى حال السلام والمصالحة، على الرّغم من توقيع الاتّفاق السياسي المُبرَم بين الأطراف المعنيَّة في 17 كانون الأوّل/ ديسمبر 2015، والمعروف باسم “اتّفاق الصخيرات” وما تلاه من حواراتٍ واتّفاقاتٍ في عواصم أو مُدن عديدة. وعلى الرّغم من وجود شبه اسمي لحكومة نتجت عن تلك الحوارات، مُعترف بها دوليّاً، باسم حكومة الوحدة الوطنيّة، فإنّ البرلمان الذي منحها الثقة، عادَ بعد أشهرٍ عدّة ليسحبها منها، ويُقِرّ حكومةً جديدة رفضت الحكومة القائمة الاعتراف بها، وتسليم مقاليد البلاد لها، مدعومةً مرّة أخرى بجهاتٍ خارجيّة، من ضمن أو خارج مظلّة الأُمم المتّحدة، وليستمرّ الانقسام السياسي والمؤسّساتي.

واقعيّاً، تُدار ليبيا اليوم من طَرَفِ ميليشيّاتٍ مسلّحة متنوّعة التوجّهات التي لا تستنكف عن الاقتتال، كلّما وجدت لذلك سبباً. هكذا، ومثلما أَفسد التدخّلُ الخارجي انتفاضةً كان يُمكن أن تبقى شعبيّةً بامتياز، يكاد التدخُّل الخارجي اليوم أن يُجهِز تقريباً على كلّ ما هو ليبي.

الدولة والمُجتمع

لم تلجم عواملُ الوحدة القويّة بين اللّيبيّين كالدّين (بما أنّ كلّ اللّيبيّين مسلمون والغالبيّة الساحقة منهم سنّة مالكيّة)، والهويّة (بما أنّ الغالبيّة الساحقة من اللّيبيّين هم عرب عاشوا بسلامٍ من ضمن مظلّة ليبيا الواحدة مع إخوانهم من الطوارق والتبّو والأمازيغ الذين بالمناسبة لم يكونوا يُعرفون بهذا الاسم محليّاً، بل يُشار إليهم بـ “الجباليّة”، أي سكّان الجبل الغربي في ليبيا، إضافة إلى “الزواريّة”، وهُم سكّان بلدة زوارة في الغرب) الصراعَ في ليبيا. كما أنّ القبائل تترابط بأكثر من وشيجة، ولم يشهد تاريخ البلاد تناحرها أو صراعها الشامل.

يُذكر أنّه على الرّغم من وجود سجلٍّ لبعض الأزمات أو الخلافات والنّزاعات في ليبيا، إلّا أنّ حلّها واستيعاب مطالب المشاركين فيها كان يجري بقوّة العُرف، وبوشائج الدّين والقرابة اللّتَيْن ظهرتا بقوّة أيضاً، وبما يُثبت عُمق الترابُط وتمازُج أو تماسُك العروبة والإسلام، بخاصّة في المقاومة ضدّ الاستعمار الإيطالي، وفي مواجهة جرائمه المختلفة، والتي شملت الإبادة الجماعيّة، كما شهدت عليها المعتقلات والتهجير، وأيضاً النفي إلى الجزر الإيطاليّة المهجورة.

لكنّ النظرة الواعية والمتفحّصة لما يجري في ليبيا منذ العام 2011، لا ينبغي أن تغفل أنّ ما تعاني منه ليبيا اليوم، ليس وليد الانتفاضة، فالبلاد تعرف العديد من نقاط الضعف، وتواجه تحديّات كبيرة، لا يمكن ردّها إلى تداعيات الانتفاضة والتدخّل العسكري الأجنبي فقط، ولكن أيضاً إلى حقيقة أنّ بِنى وهياكل الدولة التي استخدمها القذّافي، كانت جزءاً أساسيّاً من الصراع.

ما حدث ليس سوى نتيجة تفاعل عوامل متعدّدة. فبقدر ما كان الوضع الفوضوي نتيجة مباشرة للانتفاضة، وارتداداتها، فهو يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالماضي الذي يتضمّن إرث نظام القذّافي، وانتهاكات حقوق الإنسان عبر أربعة عقود، علاوة على الانتهاكات والفظائع التي جرى ارتكابها منذ الانتفاضة. وهذا يعني أنّ البلاد بحاجة إلى التعامل مع هذا الإرث، وما تلاه من مُمارسات، ومواجهتها لتجنّب الانحدار أكثر نحو مزيدٍ من الفوضى والصراع الذي يتأجّج نتيجة الاختراق الأجنبي المتواصل وانتشار الأسلحة.

تلك العوامل تشمل أيضاً الضعف المتأصّل في الثقافة المدنيّة والديمقراطيّة، فضلاً عن التأثير المتزايد للأطراف على حساب المركز مع تسييس الإدارة العامّة، والإقصاء، وانعدام الثقة. مثلما أدّى الفشل في التوصّل إلى اتّفاق حول رؤية مشتركة حول الدولة المنشودة إلى إضعاف بقايا مؤسّساتها والبيروقراطيّة المصابة بعدم الفعاليّة أصلاً، مع ما تعانيه من تضخّم عدد الموظّفين الذين يتقاضون مرتّبات من الدولة بشكل يفوق كلّ التقديرات للعلاقة بين حجم السكّان وعدد موظّفي الدولة المعنيّين بتقديم الخدمات. لذلك صار الاختلال الوظيفي والجمود الإداري، هو السمة السائدة اليوم، مع الافتقار الشديد إلى السيطرة على الإنفاق العامّ، ما أدّى إلى مزيد من الفساد وتبديد الأموال العامّة بدرجة غير مسبوقة. وقد تمّ اختطاف المؤسّسات العامّة والاستيلاء عليها لخدمة المصالح الحزبيّة أو القبليّة والجهويّة، ما خلق مزيداً من الدوافع للصراع. بدا ذلك واضحاً، حيث تمّ تصميم وإنشاء العديد من المؤسّسات الحكوميّة والعامّة الجديدة، لتقوم أساساً بخدمة مصالح أطراف أو قوى فاعلة أو لتلبية مصالح بعض الفصائل. وبدلاً من بناء الدولة، والإعداد الجيّد للمؤسّسات الجديدة، والإصلاح المؤسّسي، باتت المؤسّسات أدوات للصراع، فأسهم ذلك في تعميق الانقسام، وبالتالي ترسيخ الصراع عوضاً عن إنهائه، لتستمرّ البلاد في المعاناة من الاضْطرابات الاجتماعيّة والانقسام السياسي، والركود الاقتصادي، وتدفّق المهاجرين، والجريمة على أنواعها، كما تعيش نُذُرَ حربٍ وتهديدٍ لوحدتها الوطنيّة.

آفاق المستقبل

تواجه ليبيا اليوم مستقبلاً غامضاً، ومستنقعاً سياسيّاً، ومصاعب اقتصاديّة شديدة، مع مخاطر تجدّد التصعيد العسكري، بسبب الجمود السياسي بعد انتهاء أجل خارطة الطريق الناجمة عن منتدى الحوار السياسي اللّيبي، وفشل العمليّة الانتخابيّة التي كانت مقرّرة في 24 كانون الأوّل/ ديسمبر 2022، ولا تزال القضايا الأكثر أهميّة تنتظر العمل على المسارات السياسيّة والاقتصاديّة والعسكريّة، بما في ذلك حلّ القضايا المعقّدة مثل مستقبل الميليشيّات والأمن والقضايا الشائكة للعمليّة الانتخابيّة والدستور الدائم.

عجزَ ما تمَّ من اتّفاقيّات عبر الأُمم المتّحدة عن الاستجابة للتحدّيات، ما يُبرز الحاجة الملحّة إلى اتّفاق سلام شامل مملوك للّيبيّين من دون سواهم. وبينما يزداد التدخّل الخارجي كثافةً وتتعدّد أطرافه، تؤثِّر الأزمة سلباً في التماسك الداخلي لجميع الأطراف، فيتأكّد أنّ تحقيق أيّ تسوية يعتمد بشكلٍ أساسيّ على وعي الأطراف اللّيبيّة بضرورة المُصالحة والسلام وحتميّته، وهو ما يتوقّف عمليّاً على قدرة تلك الأطراف على حشْدِ المكوّنات الاجتماعيّة والسياسيّة لتحقيق هذا الهدف وإطلاق عمليّة شاملة لبناء الدولة والحيلولة دون وقوع المزيد من التشرذم والضَّرر بالنسيج الاجتماعي.

***

*كاتب وأستاذ جامعي من ليبيا

*مؤسسة الفكر العربي-نشرة أفق

(Klonopin)

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *