سجلوا عندكم

المفكّر زياد سعادة يعيد صياغة الإنسان بـ”البارابسيكولوجيا”!

Views: 1401

د. جورج طراد

   لا بدّ، بدايةً، من الاعتراف بأنّ كتابات المفكّر زياد سعادة هي على درجة كبيرة من الصعوبة. وهي صعوبة متأتّيةٌ، على الأرجح، عن اكتناز فكري كثيف قلّ نظيره في معظم الكتابات الحديثة. فمع هذا النوع من الكتابة، تجد نفسَك مضطرًّا، لابل تجد نفسك مستمتعًا، بقراءة المقطع الواحد مرّة  مرتيْن، أو ثلاثًا، في محاولة لكي تفهم أوّلا، ولكي تربط الأفكار ثانيا، ولكي تتمكّن من ولوج عالم زياد سعادة الفكري دائمًا.

  هل أن السبب في ذلك عائدٌ إلى طبيعة الموضوع الذي يتناوله هذا المفكّر؟ على الأرجح، نعم. فالعلوم الباطنيّة والخفيّة (sciences occultes et esoterisme)، لا تسلِّم نفسها بسهولة إلى غير المتبحِّرين المتبتّلين الذين يكرسون نفسهم للبحث المضني. وتاريخ الثقافة العربيّة شهد حالاتٍ وتجاربَ كثيرة تنتمي إلى هذا المنحى الفكري المكتنِز. ولعلّ أبرزها فكر القرامطة و الحركة الإسماعيليّة والحركة الصوفيّة. وربما تكون كلها قد تركتْ تأثيراتها في الفكر الغربي ، على ما كان يقول مكسيم رودنسون.

  وكذلك الأمر في لبنان فقد شهدت مرحلة أواسط القرن الماضي موجة عاتية من القول بوجود خوارق لا تفسير منطقيّا لها، وفق القواعد التقليدية. تلك الموجة عُرفَتْ بالداهشيّة نسبة إلى مؤسسها الدكتور داهش، الذي قال أنصاره إنه صنع معجزات وشفى الجرحى ومشى على الماء، وجرى إعدا مه في مكان لكنه عاد إلى الحياة في مكان آخر. وقد وصلت ” سطوة” خوارق   الدكتور داهش حدودا جعلتْ العلّامة المعروف عبدالله العلايلي يؤلف كتابا عنه بعنوان:” كيف عرفتُ الدكتور داهش؟”. وكذلك فإن كاتبًا آخر هو الدكتور غازي البراكس كرّس حياته لدراسة خوارق داهش، ووصلت به الأمور إلى حدود وضع كتاب نقدي عن جبران خليل جبران وفق المبادئ الداهشيّة!

 

  نسوق هذه النماذج هنا لنؤكد أن الإعتقاد بالباطنيّة وبوجود خوارق تتخطى قواعد المنطق المألوف،هو اعتقاد موجود في تاريخنا الفكري والثقافي، كما هو موجود عند الغربيين. والدليل على هذا وجود دراسات تثبت أن هتلر كان يؤمن بالمنجمين وبالسحَرة، وكذلك فإن الجنرال ديغول كان ، كما يُقال، يحرص على استشارة أحد المنجمين قبل إقدامه على اتخاذ قرارات كبرى. ويُقال ايضا أن الرئيس الإيراني الأسبق، أحمدي نجاد، قد مُنِع من ترشيح نفسه ثانية للرئاسة لأنه كان يواظب على استشارة أحد المنجمين!

  كلّ هذا يؤكد فكرة الاعتقاد بوجود خوارق وتأويلات، في الشرق كما في الغرب، لا تفسير منطقيّا لها. وفي هذا ما يثبت وجود علوم خفيّة تنظّم مثل هذه الإعتقادات. وهي علوم غير متاحة، مبدئيّا، لعامة الناس لأنها تفوق قدراتهم على الاستيعاب والربط والتحليل. إنما هي حكرٌ على نخبة من المفكرين الذين كرسوا نفسهم للدراسة والتحليل ووُهبوا قوةً كبرى تخوِّلهم ذلك.

  ومن الواضح، في هذا السياق، أن المفكّر زياد سعادة هو واحد من تلك النخبة. فهو يتمتّع بقوة هائلة تفوق سنّه، جعلته ينهل بشغف شديد من ينابيع العلوم الخفيّة، حتّى تكوَّنتْ لديه ثقافة واسعة جدّا سمحتْ له بأن يتعامل مع هذه العلوم البالغة الصعوبة، تعامُلَ الخبير المقتدِر الواثق من خطواته، ولكن الباحث دائما عن المزيد، وهو القائل:” إن آخر درس نتلقاه في حياتنا يكون في آخر اللحظات التي نعيشها.” وهذا ما طبّقه على نفسه قبل أن يطلبه من الآخرين.

  وأهميّة المفكّر زياد سعادة، كما يتبدّى من كتاباته، تكمن في أنه سعى، وبجهد دؤوب ومركَّز، إلى الحؤول دون أن تبقى العلوم الباطنيّة، ولاسيما البارابسيكولوجيا، رهينة الكتب المتخصّصة والنظرات العلميّة الرسميّة. على العكس، هو عمل جاهدًا على نشرها وتعميمها لتصلَ إلى غير المتخصّصين فتنتشر المعرفة وتتحوّل إلى حافز يحرِّك مَنْ يريد البحث عن المزيد vulgarisation .

  وأكبرُ دليل على هذا أن زياد سعادة حرص على أن ينشر أفكاره في صحيفة يوميّة تصل إلى أيدي أصحاب مستويات متفاوتة علميّا وثقافيّا من القرّاء. هكذا تمكّن من إدخالها إلى كلّ البيوت والرؤوس فباتتْ مفرداتها مألوفة عند طبقة واسعة من الناس ولم تعد حِكرا على النخبة من المتخصصين. وكما في مثَل الإنجيل المقدّس، قد تقع حبّاتُ الحنطة الفكرية التي ينثرها سعادة في أرض خصبة، فتؤتي نتائجَها الإيجابية وتنمو في فكر الآخرين. يكفي أنّ هذا المفكّر الشاب قد أسمعَ الناس العاديين معاني البارابسيكولوجيا ليكون عظيمًا.

 

  وميزة كتابات زياد سعادة تكمن خصوصًا في أنه يتصرّف تصرّف العالِم في المختبَر، حيث يتعامل مع مادة يعرف أنها بالغة الثراء، ولكن ايضا بالغة الحساسيّة والدقّة، فيظلّ، رغم معرفته بالكثير من أسرارها وخفاياها، يتعاطى معها من زاوية التجريب والإختبار قبل أن يصل إلى يقين الإستنتاج. والدليل على هذا أنه لا يجزم دائما، إنما هو يخمّن ويجرّب ويتلمّس ويَزِنُ المواقف آخذا بعين الإعتبار كلّ الاحتمالات من أقصى الشك إلى أقصى اليقين. ويتّضح كلّ هذا من خلال استخدامه ألفاظا معبِّرةً تدلّ على التجريب العلمي من نوع ” لعلّ”، و”من المرجّح” و”ربّما”، وكذلك لجؤوه إلى أداة الربط التي تفيد الإستدراك” لكن”. فمن النادر أن تقرأ صفحة من كتابه هذا من دون الوقوع، مرّة أو أكثر، على هذه المفردات الإختباريّة الإستدراكيّة المعبِّرة.

  ومفهومه لحقيقة الإنسان هي أحد المفاتيح الأساسيّة لاستيعاب تجربة زياد سعادة الفكرية. فثمة خطّان يتقاطعان، أو بالأحرى لابدّ لهما من أن يتقاطعا، هما الخط الأفقي والخط العمودي. وحقيقة الإنسان، كل إنسان، بالنسبة إلى سعادة، هي نتاج لهذا التقاطع. فالخط الأفقي هو خط وجود الإنسان مع الآخَر، ما يؤدي إلى عملية تفاعل خصبة مع الآخر بما يُسْهم في تكوين التجربة الإنسانيّة. 

  أما الخطّ العمودي فهو البُعْد الروحي، الذي يعكس علاقة الإنسان مع ال” فوق”. ولا مجال لعزل الخطيْن، “إذ إنهما متداخلان بطريقة ديالكتيكية عضوية، أما عن تقاطعهما وتداخلهما فتنشأ تلك الظاهرة الفريدة التي ندعوها الإنسان”، كما يقول زياد سعادة الذي يعيد صياغة الإنسان في ضوءعلم البارابسيكولوجيا الذي يعرّفه قائلا بأنه دون سواه، قادرٌ على “دراسة الظواهر الخارقة التي ربما كانتْ حقّا بمنزلة المنفذ إلى أسرار الجانب اللّاواعي من الحياة النفسيّة”. 

  وهذا ما أوصل سعادة إلى قناعة كبرى مفادها” أنه أصبح على النظريّة الفرويديّة أن تُفسح في المجال أمام نمط من الدراسات العلميّة أكثر عمقا ومرونة، ونعني بالتحديد العلْم البارابسيكولوجي الذي يتّخذ من الظواهر النفسيّة الخارقة موضوعًا له”، كما يقول مؤكّدا أن البارابسيكولوجيا هي” علم تركيبي يتطلّب تكامل فروع المعرفة كافة(…)ومن هنا لم يكن من المبالغة في شيء القول إنها مرشّحة من دون سواها لكي تكون علْم المستقبل، بل العلْم الوحيد الذي ينطوي في وحدته العضويّة على الفروع العلميّة كافة”.

  زياد سعادة ، بسنواته اليافعة وبجسده النحيل، كرّس نفسه لكي يحمل كلّ هذه الأوزان الفكرية المكتنزة، فناءت قواه تحت هذا الحِمْل الثقيل. فجُنّت خلاياه على ما يقول النقيب السبعلاني وراحت تتكاثر بفوضى قاتلة قضت عليه.فانطبق فيه قول الفيلسوف الفرنسي”Blaise Pascal حين كتب ما حرفيّته:” الإنسان ليس سوى قصَبة، أضعف موجودات الطبيعة. لكنه قصَبة مفكّرة.  ليس ضروريّا أن يتسلّح الكون كلّه ليسحقَه: بخار، قطرة ماء تكفي لقتله”. ولو كان لبسكال أن يتناول حالة زياد سعادة لأضاف: جنون خليّة يكفي للقضاء عليه! وكأن ما كتبه  الشاعر الفرنسي بيار رونسار قبل مئات السنين  كُتِبَ خصيصًا عنه: 

 Il a vecu/ ce que vivent les roses/ l’espace d’un matin         

  لكن زياد سعادة لم يمتْ. والدليل أنه حيٌّ في كتاباته أكثر بكثير ممّن يعتبرون أنفسهم أحياء. وأنا واثق من أنه سيبقى حيًّا لأن الأفكار التي ناضل من أجلها لن تموت! ولأن هناك محبين كرّسوا نفسهم للاهتمام بنتاجه وإبرازه ونشره، وعلى رأسهم والدته أطال الله بعمرها وزوجته وشقيقاته وأشقاؤه، والأديبة ابتسام غنيمة التي بذلت جهدا كبيرا لتجميع كتابات زياد وتخليدها في كتاب. فشكرا لهم جميعا ولتَهْنأْ روح زياد بهؤلاء المحبين.

***

*كلمة د. جورج طراد في ندوة حول كتاب المفكّر الراحل زياد سعاده “البارابسيكولوجيا والإنسان” مركز الصفدي الثقافي/السبت 13 أيار 2023.

  

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *