سجلوا عندكم

محمد شيّا… “رسول” الفلسفة والفكر

Views: 542

شاركت د. إلهام كلّاب في لقاء فكري تكريمي  بعنوان “الأستاذ الدكتور محمّد شيّا  سيرة فكرية وأكاديمية”  في مركز صوفر للتنمية والثقافة في القصر البلدي. في ما يلي نص محاضرة د. إلهام كلّاب.

 

 

أيها الحفلُ الكريم

آتيكُم هذا المساء من مدينةِ جبيل، من مدينةِ الحَرف، إجلالًا للحَرف، وتكريمًا لمن اعتنق الكلمةَ رسالةً وزادًا وحضارةً، فحوّلها إلى نبراسٍ وحوّلته إلى منارة.

هو منارةُ عِلم ومعرفةٍ وإبداعٍ ووطنيّةٍ وإنسانيّةٍ.

ولكن من يُحاول مُتابعة اسم من نُكرّم في هذه العشيّة، د. محمّد شيّا ونِتاجِه في آفاقِهِ الفكريّةِ والفلسفيّةِ والتاريخيّةِ والأدبيّةِ كمن يُحاوِلُ اجتيازَ بحرٍ تلاطمت أمواجُه وتآلفت، بين الشَّغف بالمعرِفة، والجُرأةِ على اقتحام أغوارِ الفِكر، والتساؤلِ المُتواصِل والمُثابرة المُضنيَة، وتكريسِ العقل، وتقديسِ الحِوار، والتلاقُحِ الفكري وتناغُمِ إلحاحِ الموجِ مع طَعم المِلح وصلابةِ الحصى.   

قد يكون تأثيرُ شاطئِ جبيل على مُقاربتي حيث وصلني بعضٌ من كُتب د. شيّا التي تفوق الأربعين كِتابًا، وعجِبتُ لِمن يُحاوِلُ تجميعَ البحرِ في صدَفةٍ، بينما المعرفةُ إشعاعٌ يخترقُ كلَّ  أُفُقٍ.

ونحنُ يا دكتور محمّد، أبناءُ جيلٍ تشبّع من أحلامِه، جيل تراءت له دربُ المجرّة التي لا تُدرَك بمُجرّد النّظر، فانحازَ إلى ضوئِها الواعِد.. جيل عايَش التجارِبَ “الجميلة والمجنونة” كما عنونتَ كِتابك، ولم تتراخَ بين يديه سُبحَةُ الأملِ والانبعاثِ.

وإلا.. فكيف لكُم أن تترسّلوا في مجال الفلسفةِ، والفِكرِ، والتاريخِ، والتربيةِ، والأدبِ، والإدارةِ، كمشّائي الفلسفة، وأن تقِفَ على هضبةٍ تتنازعُها رياحٌ مُفاجئةٌ وأنت تُحاوِلُ أن تُلطّفَ العواصِفَ، وتستدعيَ العقلَ وتتدارَكَ الانهياراتِ، وتُصالِحَ المُستحيلَ وأن تُخاطِبَ الكونَ والإنسانَ والوطنَ، وأن تُعاني، وأن تعني، وأن تحنَّ إلى تُراث، المونة والمحدلة وكوارة القمح، وأن تتولّع بِحفيفِ أغصانِ غابةِ الصنوبر في بدغان حين تهُبّ الريح؟

هي مُقارباتٌ… وهي مُفارقاتٌ…

هي “سنواتٌ جميلة، سنواتٌ مجنونة”، “العقل لا الغرائز”، “الوطن لا الطوائف”، “الوحدة لا التفتُّت”، تستوقفُنا ليس فقط كعناوينَ مُثيرةٍ لمؤلّفاتِك، بل كجدليّةٍ فِكريّةٍ وفلسفيّةٍ ووطنيّةٍ تستدعي الوعي، تُخصّبُ المُخيّلةَ وتوقِظُ الضميرَ.

كيف نُخرجُ المارِدَ من القُمقُم في هذه الأُمسيةِ القصيرةِ. من المُستحيلِ استعادة كلّ هذه المؤلفات الغزيرةِ ولكن بإمكانِنا مُلاحقة هذا الشُعاعُ الذهبي الذي يجتازُ كلّ مؤلّفات د. شيّا. هو الذي لا يسوّر أي موضوع يتناولُه بأحاديّةٍ أو المَنهج، بل يفتحُ آفاقَ المعرفةِ على بعضها البعض ويطعّمَها كما تُطعَّمُ الأشجارُ .

 يسعى د. شيّا على مستوى المعرفة إلى التلاقُح والتفاعُل بين كلّ آفاق الفِكر، وعلى مستوى التجربة الإنسانيّة إلى التواصُلِ السلِسِ والخصبِ والمُحِبّ بين الناس في اختلافهم وتنوّعهم.

 سأتوقّف عند التداخُلِ المقصودِ أو التضاد الموحي في اختيار مواضيعِ المؤلفات. أجدُه يقلّب المواضيع، يترصّدُها من مناهِجَ مُختلفةٍ، يُزاوِج بين الأدبِ والفلسفةِ والتاريخ في تجانُسِ الاختلاف وجاذبيّتِه، ويبتدِعُ مَساحات اللقاء.

لم يتوقّف عند الأنواعِ الأدبيّةِ ولم يُقارب الأبوابَ التقليديّةَ إلا بفتحِ نوافِذَ جديدة تُفاجئ وتُجدّد.

يسعى د. شيّا ومع إعادة صياغة المُصطلحات، إلى فكفكةِ الأسوارِ بين الأنواع الفكريّة والمدارِس الأدبيّة، بخصوبة الاختلاف وديناميّةِ التداخُل، وحساسيّةِ المُقاربة التي تُنعِشُ الفلسفةَ، وتُعمّقُ الأدبَ، وتُجوهِر الشِّعر، وتفتَحُ بجُرأةٍ قنواتِ تواصُلٍ وتشابُهٍ وتلاقُحٍ، كما تُمهّد لوِلادة فِكر جديد ينبثقُ من صدمة اللقاء.

وأعطي مِثالًا عن تحقُّق نظريّتِه في جاذبيّة روايات ميخائيل نعيمه لطالِبِ فلسفةٍ شاب، التقاهُ وحاورَه وكرّس له دراسةً بحثيّةً تابعها حتى بحثِ الدكتوراه. كان د. شيّا يُحاوِلُ التقاطَ الوعي الفلسفي أو وعي الوعي في ما أسماه الأدب الفلسفي والذي خصّصَ له كتابًا فريدًا.

هي قراءةٌ متميّزةٌ لاستبطانِ البُعدِ الفلسفي في الطابَع الجمالي للفنّ وللأدبِ العظيم الذي تمكّنَ من البقاءِ عِبرَ الأجيالِ، من ملحمةِ جلجامش إلى المُتنبّي إلى غوته إلى جبران وسارتر.

هذا التلاقُح بين الأدبِ والفلسفة ألا يستدعي إلى الذهن، ما سطّرتَه في كِتاباتِك السياسيّة عن أهميّة تلاقُح الذهنيّات والانتماءات في وطن يتجوهرُ ويحلو بحوار الاختلاف ويذبل ويخبو بعُنف العصبيّات.

(أذكر أنك عندما طلبتَ مني التدريس في كليّة السياحة كان الموضوعُ السياحة والأنتروبولوجيا وكانت تجربةً فكريّةً فريدةً في تداخُل مواضيعِ المعرفةِ وبهجةِ نتائجِها).

وكانت كِتابةُ التاريخ منهجًا إلى فلسفة التاريخ في كتابك “حضارة العصر العباسي، منارة في ليل العصور الوسطى”، حيث استفضتَ في عرض تجربةٍ حضاريّةٍ مُثيرةٍ في تنوّعِها واستيعابِها للحضارات والأعرافِ والأديان، وفي توهّجِها بالامتزاجِ الثقافي والانفتاحِ على كلّ اختلاف، وبالتعايُش الدّيني الرحب.

ألم تُطلق صرختَك المدوّيةَ في كتابك الصرح “سنواتٌ جميلة سنواتٌ مجنونة”: قِصص الحياة والموت في جبل لبنان، عن الطائفيّة والحرب الأهليّة، وعن عصبيّة الانتماء الضيّق التي تهدِم جسورَ اللقاء والحوار والتبادُل والتلاقُح والعيش الهنيء…

ما أفقرَ الإنسان وما أتعسَه إذا كان أحاديًّا وكارِهًا، وما أغناه وأسعدَه عندما يكون حواريًّا متقبّلًا للاختلاف مُبلسمًا مُحبًّا.

لقد دوّنتَ سيرتَك الذاتيّة في هذا الكتاب بحنين وألم ورفض لكلّ أشكال العُنف “نعم للحياة.. لا للحربِ تحت أية ذريعة”، تقول بحدّة المكلوم، مُرتحِلًا بمفاهيمَ التفاعُلِ والرّحابةِ من الفكرِ إلى المُواطنةِ.

حبّذا لو أدخلتَ فصولًا من هذا الكتاب إلى برامِج التدريس كي يتربّى أولادُنا على نَبذ العصبيّات والعُنف والموت والحُروب الأهليّة التي عايَشَتها بمرارة، أجيالٌ لم تسلَم من جِراحِها ونُدوبها.

أما الشعرُ وهو “مرآةٌ تجلو القلوبَ” في أصدق انفعالاتها، فقد أطلّ بعد مسارِك الطويل، في “لحظات هاربة” من شقوقِ الروح ونوافذِ الفكر في تعميق أسئلةِ الوجودِ ومُصالحةِ النفس والعقلِ، مع الفنّ والجمال.

لن استرسِلَ، ولكن أودُّ أن أذكُرَ أننا عندما نلتقي د. محمّد شيّا فإننا نلتقي آفاقًا من المعرِفة والإنجاز، ولكننا نلتقي بالمُقابِل إنسانًا خلوقًا باسِمًا، يحلو لقاؤه لِما يُضفي على الحياة العاديّة من أُلفة ودهشةٍ وعطاءٍ وعُمقٍ ومحبّةٍ، تسبِقُه إطلالةُ الكِبر والشُّموخ والابتسامةُ المُرحّبةُ والإصغاءُ المُحبُّ ورهافةُ تذوّقِ جمالات الطبيعة،  والشغفُ الدائمُ بكلّ تجربة إنسانيّة، والتوقُ إلى الكمال كي يزدادَ الإنسانُ إنسانيّةً…

…ويصفُر القِطارُ

…ويصفُر قِطارُ صوفر..

مُحفّزًا توقُه إلى ريادة العالم، مُخصبًا فكرُه بمعاني السفرِ، والمُغامرةِ، والارتحال، ولحظاتِ الوصول واللهفة، والفرحِ واللقاء، كما بالدقّةِ والنظامِ والمُثابرةِ والتنوّع الإنساني المُذهِل.

تقول:

“وجفونُنا تهتزُّ جذلى…

ودخانُه شالٌ

يلوّحُ

يختفي

 بل يأخذُ الأشجارَ

كان القطارُ كتابَك الأوّل الذي لا تزالُ إلى اليوم تستعيدُ سطورَه.. كان جرسَ المدرسةِ الأُولى… مِحبرةَ الوحي التي غمستَ فيها قلمَك الذي لا ينضَب.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *