سجلوا عندكم

في رحيل حليم بركات (1933-2023) مودعًا مدينته الملوّنة

Views: 527

سليمان بختي

كان الحديث مع الراحل حليم بركات (1933-2023) الروائي وعالم الاجتماع كلما التقيناه في بيروت في منزل صديقه الدكتور منير بشور في رأس بيروت يفتح المدى على الأبعاد.

واذا سألته لا يقف السؤال على معنى محدد في علم الاجتماع بل ينفتح على المعاني والرموز  في الرواية.

اذكر انه كان يبتسم قبل الإجابة على أي سؤال كان لا يريد أن يعكر السؤال ذلك الصفاء  الداخلي الذي يتمتع به.

احتفظ حليم بركات باللطف والطيبة والدفء كأنه هبط الآن من الكفرون.

 

لم تبارحه الأمكنة الأولى ولا الوجوه الأولى ولا المدينة الملونة (بيروت) التي أعطاها جذوة العمر ولا الرفاق في مجلة شعر. وقد صدرت مجموعته ” الصمت والمطر ” (قصص) عن دار مجلة “شعر” 1958 وكذلك رواية “ستة أيام” عن دار مجلة “شعر” 1961.

ولا الرفاق في الحي في رأس بيروت  اذ كان يأنس بالتحدث مع الراحل سميح شاتيلا حارس مرمى فريق النجمة ومنتخب لبنان في تلك الأيام الجميلة.

ولا الرفاق في مدرسة الكبوشية ومدرسة الـ أي سي والجامعة الأميركية. ولا الرفاق في حلم النهضة.

بقي يقيم الحوار معهم فهم أبطال حياته وأبطال رواياته وهم الذين سكنوا الذاكرة وأصبحو الرموز التي لا تحول ولا تزول.

 

لبث حليم بركات يوفق بين الرواية وعلم الاجتماع على قاعدة أنهما معا بحثا  في الإنسان. ويبوح بأنه قلما يكتب رواية بدون دراسة اجتماعية مسبقة. وأن همه في نهاية المطاف أن يعبر عن حركة الصراع لدى الإنسان في حركته وسكونه وفي واقعه وحلمه. 

لا اعرف كم مرة قال حليم بركات ” لا بد من العودة” وكتب ذلك في آخر صفحة من روايته الرائعة ” طائر الحوم” (1988)  ودخل فيها في حوار مع والدته “أم حليم” حوار بلا حدود ولا ضفاف ولا قيود.

هذا الحنين اجج مشاعره نحو الكفرون فقال لي “روايتي المقبلة ستكون موضوعها القرية” وكتب ” انانا والنهر” (1995) عن حادثة قديمة حصلت في القرية وفي كل مرحلة زمنية تتغير بعض معالمها وكان الراوي هي الأرملة التي توفى زوجها وصارت تحكي له ما يجري في القرية من وقائع وأحداث واسرار في زيارتها الأسبوعية لقبره. 

عام 1969 كتب “عودة الطائر الى البحر” وترجمت الى الإنكليزية واليابانية والفرنسية.

 

اهتم حليم بركات في دراساته الاجتماعية بمحالات النفي والاقتلاع وكتب ” النازحون” (1968) واهتم بسؤال الهوية والعدالة الاجتماعية والاغتراب.

وكتب “المجتمع العربي المعاصر” (1984) و” الهوية وازمة الحداثة والوعي التقليدي” (2004) و”الإغتراب في الثقافة العربية” (2006).

أما آخر كتبه فكان ” رياح وظلال ” قصص قصيرة (2012) وفيها قصة مهداة الى سعيد تقي الدين ” النبع العطش الذي تدفق من أجل الجذور في ترابنا”. سعيد تقي الدين الذي شجعه على كتابة القصة القصيرة واكتشف في صداقته كرم الروح. كان يعنيه كثيرا ان يعيد قراءة جبران. وان يعيد قراءة سعيد تقي الدين مثلما  يقرأ لفولكنر وهمنغواي. وكان يعنيه اكثر ان لا يفقد الفكرة الصافية والمثال السامي والمخيلة. 

 

نالت روايته الأولى ” القمم الخضراء” (1956) جائزة سليمان المدرس. ولكن روايات حليم بركات وثّقت وتجاوزت. وثّقت المعاناة الإنسانية في إطارها التاريخي ووثّقت الأحداث وفقا لرؤيته الخاصة وهي كانت دائما رؤية منفتحة ومرنة ومتسامحة. هذه الرؤية المرنة وجدت طريقا لها في رواية “الرحيل بين السهم والوتر” (1979) اذ اعاد قراءة “الف ليلة وليلة ” وادخل بعض الأجزاء منها في متن الرواية. 

غاب حليم بركات في الإقامة البعيدة ، اصيب بداء الباركنسون ومضاعفاته. عانى الغربة المضاعفة.الغربة القاسية على الروح والمكان وعلى ظروفه الصعبة التي منعته من المجيء الى بيروت (المدينة الملونة) ولا الى الكفرون ليسبح في ذلك النهر الشفاف. 

كان حليم بركات دائما على تلك الصورة المألوفة من الهدوء والتريث. وبيده سهم يحاول ان يطلقه في فضاء متجرد وموهبة معطاء وامل متردد وحزن عميق. 

قال غير مرة “وفرت لي الغربة التفاعل الحر مع الحضارات الأخرى والكتابة متحررا من الخوف وهيمنة السلطة ورسخت منهجي النقدي، وزادت تمسكي بهويتي وسعيي الى جذوري دون انغلاق”. 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *