راحوا…

Views: 747

د. جان توما

 

ضجرتِ الأشجارُ من الانتظار، والأبوابُ تأوّهَتْ تعبًا. لملمتِ الوجوهُ أوراقَ ملامحِها، وكبساطِ ريحٍ مَضَتٍ إلى ألفِ حكايةٍ في ألفِ حقيبةِ سفر.

باقونَ هنا كالظلالِ، لا تلغينا المسافاتُ ولا يذبحنا سكينُ الغربة، فقد جاءَ في رواياتِ ما قبل عام ١٩٠٥ أنّ المهاجرينَ إلى البرازيل كانوا بحفرونَ أسماءَهم على خشبِ السفن التي حملتهم بعيدًا. لعلّهم أدركوا أنّهم إلى المجهولِ ماضون،مؤمنينَ أنّ الاسمَ سيبقى مبحرًا بين شواطىء الهجرةِ وجزرِ الحنين.

يمتدُّ الطريقُ متثائبا، قد يكون الوحيد الذي يبدو أنّ أقصى أمانيه أن يدوسّه أحدٌ ليشعرَ بالحياة. اشتاقتْ أعمدةُ مصابيحِه لمن يستند إليها، يسحبُ نَفَس سيجارتِه في زمنِ انقطاعِ النَفَس، كما أشتاقت أبوابُهُ المغلقةُ إلى من يحرّك مطرقاتها النحاسيّة من أجلِ رنينٍ أو صوت.

غابَ صوت الراديو المرتفع، ولملمتِ النساء قطعَ الغسيل لترتاحَ في الخزائن المتأوهةِ بانتظارِ عائدٍ يسألُ عن أشيائه الصغيرة. ما عادَ حضنُ الأمهاتِ حاضنا إلّا على غصّة، أو دمعة، أو رفّة قلب مشتاق. لم تعد رؤوسهن تطلّ من النوافذ المشرّعة للريح ليسألن ساعي البريد عن رسالة من غائب ليطرّزنها بدمعِ العيون وصنارتي الرئتين.

ارتاحُ في هذه الظلال كالمرتاحِ على أمل، على رجاء، على آتٍ من أحلام الطفولة، وطموحِ الشباب، وسكونِ الشيوخ.

***

*اللوحة للفنان حبيب ياغي

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *