سلالم منزل عبّاس مَحمُود العَقّاد بالقاهرة والمُوز البلدي!

Views: 481

السفير د. محمّد محمّد خطّابي * 

منذ سَنواتٍ بعيدةٍ خلتْ، عندما كنتُ ما زلتُ أتابع دراستي العليا في مدينة المُعزّ لدين الله الفاطمي التي تعلو سماءها المحروسة ما ينيف عن الألف مئذنة، مدينة القاهرة السّاحرة، عدتُ ذات مرّةٍ راكباً المترو الرابط إبّانئذٍ بين كلية الآداب بجامعة عين شمس بالقرب من ميدان العبّاسية إلى منطقة روكسي وراء نادي هيليوليدو بمصر الجديدة، وفي شارع “المعالي” حيث كنت أقطن، كان هناك باعة متجوّلون، ومستقرّون كُثُر تغصّ عرباتهم، ودكاكينهم بأطنان ممّا لذّ وطاب من مختلف أصناف الفواكه، وأنواع الخضروات، كانت عربة أحدهم ملأى بالمُوز البلدى الصّغير الحجم الذي يطلق عليه “موز الراسكادلي”، وهو ذو لون أصفر ورْس لامع تعلوه نقط دقيقة داكنة سوداء، المعروف بحلاوة طعمه اللذيذ، الموجود بكثرة كذلك في البلدان الأسيويّة وفى بلدان أمريكا اللاتينية إذ رأيته، واشتريته، وأكلته في المكسيك، والبيرو، وبنما، والإكوادور، وفنزويلا، وفي كولومبيا على وجه الخصوص، خلال إقامتي وعملي بهذا البلد الجميل ممثّلاً لبلدي فيها لمدّة خمس سنوات ونيّف. كان هذا الصّنف من الموز يُسمّى عندهم وما يزال “البُوكاديّيو”…

 

المُهمّ، بعد أن نزلتُ من الميترو بشقّ الأنفس، إذ كان غاصّاً، مزدحماً، مكتظاً بالمسافرين، اتّجهت إلى احدى العربات التي تعوّدتُ التبضّع منها واشتريتُ اثنين كيلو غرام من هذا المُوز.

كانت الأسعار على أيامنا زهيدة جدّاً في القاهرة.. وضع البائع الموز ولفّه بعناية فائقة في “جُورنال” عتيق.. وعندما وصلتُ المنزل بعد صعود سلالم أو أدراج خمسة أدوار مُهرولاً على عَجَل بدون مِصعد، تذكّرت عندئذٍ سلالم أو أدراج منزل الكاتب الصعيدي العصاميّ الكبير عبّاس محمود العقاد رحمه الله بمصر الجديدة، الذي لم يكن فيه مصعد أيضاً، والذي تحدّث عنه بإفاضة بأسلوبه الآسر الشيّق الرشيق الكاتب المصري الصّديق الراحل أنيس منصور في أحاديثه الشهيرة عن العقّاد، والذي كنت قد أجريتُ معه آخر إستجواب أدبي قبيل وفاته رحمه الله عن رغبة الأدباء الشباب في النشر المُبكّر والأبواب الحديدية، فأخبرنا أنّ العقّاد وصف ذات مرّةٍ سلالم بيته عندما كان في مُقتبل العُمر وصفاً جميلاً ولطيفاً فقال: “كنتُ أصعدها ركضاً ثلاثاّ.. ثلاثاً .. وبياض شعري يتوارى في سواده.. والآن، بعد أن بلغتُ من السنّ عتيّا، أصعدها بتؤدة، واحدةً .. واحدةً.. وسواد شعري يتوارى في بياضه..!

المهمّ عندما وصلتُ المنزل صاعداً إليه على حال صعود العقاد لسلالم منزله في شبابه، وضعتُ اللفّة على طاولةٍ خشبيّة كانت تتوسّط باحة المَسكن، (كنّا نستعملها للأكل، وتناول الشاي، والمطالعة، والمذاكرة، وللمكوىَ “المصلوح” كما يُقال في العامية المغربية أو “بلانشا” كما يُقال في شمال المغرب) وكانت لنا في هذه الطاولة كذلك مآرب أخرى كلعب الورق بالطريقتين المصرية العربية “البصرة” والمغربية الإسبانية “الرّوندة”..! .

 

عندما هممتُ على فتح لفّة المُوز والتهام موزتين أوثلاث مُوزات… وبعد أن فتحتُ الجريدة القديمة على مصراعيْها وباعدتُ بين صفحات أوراقها التي كانت تميل للصّفرة، تراءت لي فيها في صدفةٍ غريبة لم تكن مُنتظرَة، ولم تخطر على بالي أبداً صورة الفنانة المصرية الشهيرة ذات الحُسن الظاهر، والجمال الباهر مديحة يسري وهي في عزّ شبابها وأوج نضارتها وعزّها وتألقها، وإلى جانبها تبدّت لي صورة عبّاس محمود العقاد بالبريه المعهود الذي اعتاد على وضعه على رأسه، وإلى جانب الصورة تبدّى لي مقال حامي الوطيس للأديب الألمعيّ مصطفى صادق الرّافعي مع صورته الشّهيرة وهو يرتدي طربوشه الوطني الأحمر المأثور، والمشهور، كان الرّافعي ينتقد في هذا المقال ديوانَ العقاد في عمود تحت عنوان “على السفّود” حيث صدر له في ما بعد كتاب مشهور تحت نفس هذا العنوان… فقلتُ مع نفسي عندئذٍ: آآآآهٍ يا صاحبَ “سارة”، أيّها المثقف الصّنديد الكبير الذي كانت ترتعد وترتعش منك أقلام معاصريك أصبحتَ على أيامنا تُباع، وتُشترىَ، وتُلفّ صُورُك ومقالات لك وعنك في اتنين كيلو مُوز.. يكيل لك فيها صاحب “من وحي القلم” أقسى الضربات، وأعنف اللكمات، وهو يشوي حروف ديوانك في “سفّوده” على نارٍ هادئة حامية بنقدٍ لاذعٍ، قاسٍ، فظيع !!! 

في هذه اللحظة عدلتُ عن فكرة أكل المُوز، وانهمكتُ دون أن أدري منغمساً في الاستمتاع بقراءة هذه “النقائض” الجديدة في أدبنا العربي الحديث المُمثلة في مقالات الرّافعي عن هذا الصّعيدي العنيد، والكاتب العصامي ّ الجسُور صاحب “العبقريّات”!. والعكس. وزاد تأملي، وشطّ خيالي، وحلّق بي فكري بعيداً ولسانُ حالي يقول: عجباً للأيّام كيف تمضي، وحمداً لله على هذه الذاكرة الوَهِنة التي ما زالت تقاوم تحاتّ الزّمن وانسياب، وانصرام، ومرور الأعوام مرور البرق الخاطف، والتي ما فتئت تبذل قصاراها بالكاد في إستحضار، واستذكار، واستظهار، واسترجاع ذكريات حلوة خلت في حلاوة ذلك المُوز البلدي المصري إيّاه..! .

 

 ذكريات ومعايشات أمست بعيدةً عنّا في الزمان والمكان لابدّ ولاجَرَم َ ولا مناص أنّها أصبحت تتراءى لنا اليوم وتتراءى كذلك للرّائي عبر الزمن السّرمدي الأثيري النائي البعيد كما كانت تتراءى للشاعر العربي الشاب المنكود الطالع طرفة بن العبد آثار جدران أطلال خليلته خولة ببرقة ثمهدِ .. تلوح له كباقي الوشم في ظاهر اليدِ..!! 

إنها أيام انقضت، وانصرمت وذهبت لحال سبيلها بأهلها حميدةً، وئيدة، عنيدة، وهي تنتقص تنازلاً ببطء وفي هرولة.. رويداً.. رويداً بلا هوادة من أعمارنا القصيرة لتزيد أبداننا إنهاكاً وتعباً، ونفوسَنا كدراً وضنكاً، وعقولنا كللاً وعياءً، وقلوبَنا أشجاناً وأحزانا.. في عتمة دهاليز زمننا هذا الرّديء، و في متاهات عصرنا هذا الكئيب.

 قال الشاعر الذائع الصّيت أحمد أبو الطيّب المتنبّي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وما زال: 

 صَـحـِبَ الـناس قبلنا ذا الزّمانا / وعـنـاهُـم مـن شأنه ما عنانَا .

وإذا لـم يـكـن مـن الموت بدٌّ / فـمـن الـعـجز أن تموت جبانَا.

***

* د. محمّد محمّد خطّابي، كاتب وباحث ومترجم من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية-الأمريكية للآداب والعلوم -بوغوتا- كولومبيا.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *