أمين نخلة كان زمانه وأين كنا مع الشاعر الذي غنى
سليمان بختي
كان زمان نقرأ فيه امين نخلة (1901-1976) فيمسنا الطرب ونغني معه الكلام الاطرى من ورق الورد.
غنى طبيعة جبل لبنان في معادل شعري اثير لها.
شيء من قصيدة النثر سيمكث ابدا في مفكرته الريفية “الف رغيف يخرج من فرن ضيعتنا فلا والله ما احمر رغيف مثل خدك ولا احترق رغيف مثل قلبي”.
وشيء من الغنائية المنسابة ستظل تجري كالنهر الرقراق في قصائده.
وامين نخلة يبقى ” ابا الاخضر المخطط في السهل، وابا الازرق المصفق في النهر”.
اسمعه يقول او يغني: “جاء الربيع وحرك الغصنا/ اين الربيع واين ما كنا/ يا غصن يا مضنى بلا سبب/ مل حولنا يا غصن يا مضنى/ يا نرجسا نعسان من وله/ قم من فراش الغنج غازلنا/ يا ورد يا ابن الرقة: اختبأت/ في ظلك العشاق خبئنا/ يا درب نفح الطيب وجهتنا/ ارض الكناري الذي غنى”.
مع امين نخلة ينأى المرء عن القول هذا قديم وهذا جديد، بل هذا جميل، هذا شعر حتى اخر العصور.
عام 1973 دعا مجلس الشعر الثقافي الى تكريمه في قصر الاونسكو بمشاركة شعراء من العالم العربي ومنهم الاستاذ عبد المنعم الرفاعي ( الاردن) وحسن القرشي ( السعودية) ومحمد الفيتوري (السودان) ونزار قباني (سورية) ولميعة عباس عمارة ( العراق) وكمال ناصر ( فلسطين) وبولس سلامة (لبنان) وصالح جودت ( مصر) وعباس الحراري ( المغرب) الا ان حادثة اغتيال الشاعر كمال ناصر في فردان ادت الى تاجيل المهرجان الى موعد لاحق.
وتتالت الاحداث وانفجرت الحرب في لبنان في نيسان 1975 وتوفى امين نخلة في 14 ايار 1976.
ويسأل المرء هل فوت عليه غياب المهرجان امارة الشعر الموعودة له من قولة احمد شوقي “هذا ولي لعهدي/ وقيم الشعر بعدي”.
ودليلنا الى ذلك قصيدة من ثمانية ابيات قرأها سعيد عقل على صديقه امين الذي اهتز لها وادمع.
قصيدة نظمها سعيد عقل على هامش المهرجان يقول فيها:” بيني وبينك … لا عرش ولا تاج/ قم نرطق الخلد شعري اليوم معراج/ من بايعوا، بايعوا، ما هم تنصرهم/ يا ذا الفقار الذي في ظله ماجوا”. ( مجلة الاوديسيه-عدد6 – 1982).
كان امين نخلة يشارك في تكريم الاخرين ولكنه كان يرفض تكريمه.
وحين سئل عن السبب اجاب:” انه خوف من ان يعصيه ما يليق بهم وبه من حسن القول”.
ولكن كان امين نخلة ايضا ضنينا على الاسرار والكواليس وقليلا ما كان يبوح وهو الذي يعرف ان الناس يشوقهم حب الكشف على كل مغطى.
بكى امين نخلة ثلاث مرات في حياته.
بكى والديه وكتب:” ووالله ما في الوالدين كرقتي / ولا كنوزي في الصدور رحيم”.
وبكى صديقه رياض الصلح ( 1894-1951) وكتب:” ما على الحب ان مضى الاحباب/ تسلم الذكريات ، والاسباب”.
وبكى للمرة الثالثة لما سمع من يردد عليه شعره في من اهدته وردة حمراء :” يا وردة عن ريبع الشعر نائبة/ هل انت كل الذي بعد الربيع بقى”.
يروي الشاعر شوقي ابي شقرا ان امين نخلة كان يحمل قصيدته وهو في تمام اناقته ويدخل الى مكتبه في جريدة ” النهار” في الحمرا راس بيروت ويضع القصيدة ويقول:”شوقي صفحة اولى حرف 16″.
ويكتب شوقي ابي شقرا في الذكرى السنوية الاولى لوفاته في 15 ايار 1977 وتحت عنوان” ورقة دلب”: ” وكان متى جلس ونادم واخبر وحكى، هطل من كتفيه بعض ارجوان خفي ، ومن عينيه تذكارات الاصالة، وفاحت من يديه قوارير الظرفاء والخلان ، وانبسطت مكتبات على مكتبات.. كان جسده سطورا وازياحا، متلبدا بالطرب…. ونلمس منذ رواحه ، ومنذ غياب امثاله، انهم كبعض الطيور والغزلان يهلكون في الحقل من رصاصة، ثم لا يطل غيرهم من ذوي الارجل والاجنحة المتقدمة الحسن، لانهم نادرون ، والسلالة غير سلالة”.
ولا يزال امين نخلة في المحل الذي انتهت اليه صناعة الكلمة. لا يزال امامنا في الصناعتين كبيرق الربوة العالية. هو الذي جعل من النثر والشعر اغنية عذبة رقراقة. يبث الرقة المستعادة في زمن الصلافة و القصيدة عنده بلورة لصوته الانشادي.
هل نسأله بعد كيف تعرف الشعر وتبدع الشعر؟ انه اللطف والاشراق وصفاء المعنى والاسلوب وابتكار معان لم ترد على خاطر انسان ولم يطمثها انس ولا جان. وكيف تبدع الشعر؟ اسمعه يقول:” انظم الشعر مثل ما يورق الغصن/ ويهمي الندى ويسري العبير/ وانا ابن الغمام، والسفح، والدوح/ بلادي حيث الربى والغدير”.
ولامين نخلة عهد لا ينفك مع الطبيعة والكتب والازهار والالوان والنبات. ففي كتاب “رفاق سبقوا” (1990) لياسين رفاعية رسالة من امين نخلة يقول فيها:” قل لها على لساني، نحن آل نخلة قد طاب لنا عهد البنفسج، كانت امي تؤثره على كل الازاهر، وكان والدي يكتب بالنفسجي من الحبر اكراما لعين البنفسج، وكان يقول: البنفسج دواء، دواء العين والقلب معا”.
كان امين نخلة اول مسيحي يتلقى دعوة لالقاء محاضرة في جامعة الازهر وهناك استقبله الازهريون بحفاوة وطابهم قوله فتطايرت الطرابيش واهتزت العمامات وارتفعت الايدي ملوحة بالتكبير.
كان امين نخلة يفتش عن الكلمة (بالسراج والفتيلة) وقد اخبرني الدكتور ميشال حجا وهو الذي اشرف على اصدار كتابه ” الاساتذة في النثر العربي” بعد وفاة الامين انه بقي ستة اشهر يؤخر صدور ديوانه بحثا عن كلمة.
وبعد هل تستعاد ايام امين نخلة واقرانه من الشعراء الكبار في لبنان؟