ستّ عِطاف
د. إلهام كلّاب
تحتَ سقفِ بيتِها المُفعم بالذكريات، غادرت عِطاف البساط الدُنيا، كما عاشت طوال حياتها، بأناقةٍ ونُضج وواقعيّة مُرّة.
غادرت عِطاف وتركت وراءها، تاريخًا مُشبعًا بالإنسانيّة، وعبَق شخصيّة مُتميّزة يحمل لها كلّ من عرَفها، التقديرَ والإصغاءَ، والاحترام والإعجاب.
هي “السِتّ” التي كانت لكُلّ من قصَدها مرجعًا ومدرسة في النُصح والإرشاد وبُعد النظَر.
كانت مِثالًا في نسج العَلاقات الإنسانيّة، وفي رقيّ التعامُل سواء في القَرابة أو الصَداقة، وخاصة في جمع شَمل العائلة والأقرباء، احتفاء بكلّ أعياد لبنان حول مائدتها السخيّة وفي بيتِها المفتوح على مدى البحر والمتمرّس بالاستضافة بين تُراث الماضي العريق ونسَمات الحداثة المُعاصِرة.
رحلت عِطاف… وعندما تموت الأُمّ ينطفئُ ضوءُ نافذة، تغشو البيت وحشةٌ رماديّة، ونفتقدُ الأُذن التي تُصغي إلينا برِفق، والكتف التي نجرؤ على البكاء عليها.. هذا الغياب، يترُك ندوبًا في القلب، ودمعًا يترقرقُ عند كلّ ذِكر أو خاطِرة.
ستلمسون صدى غيابها كلّ يوم، عندما كانت تُدير شيخوخةَ عُمرها بحِكمةٍ وذكاءٍ.. عندما تواجِهون مقعدَها الأثير الفارِغ الذي اعتاد وجودَها، عندما تفتقدون رنّةَ صوتِها، رزانةَ ضحكتِها، عُمق حديثها..
عايشت عِطاف فِقدان الأب والأُم والزوج والإخوة والأقرباء، تنهدّت بصمتِ الحُكماء، وخبأت جراحَها في قلبها واعتمدت الحِكمة نبراسًا بصلابةٍ وصبرٍ وإيمان، فاستقوى بها من كان مريضًا، واستلهمها من كان حزينًا، واشتاق إليها من غرف من نبعِ حنانها.
هي امرأة بصلابةِ الأحجار الكريمة وجمالِها. لم تتباهَ يومًا بلقبٍ أو مركزٍ نالَه باستحقاق وجدارة زوجُها بهاء النقيب (نقيب المهندسين السابق) والوزير (وزير الموارد المائية والكهربائية والإسكان والتعاونيات في حكومة الرئيس شفيق الوزان 1982)، مهما علَت مسؤوليّاتُه الوطنيّة، ولم تكسِرها يومًا أعاصيرُ الحياة أمام أيّ صِعاب.
ولكن لم تكُن عِطاف أُمًّا فقط لأولادها، بل كان إشعاعُ شخصيّتها الغامِر، وثقافةُ الكُتب التي عاركت بها ثقافةَ الحياة، يجتذبان من الأصدقاء والأقرباء كلّ من احتاج إلى نصيحةٍ أو تدريب أو حدب أو حنان، لذا كان من يقصِدها، يقطُف برحابة من ثِمار نُضجها، وتنوّع تجاربها، وتوقُّد ذهنها، ووضوح رؤاها، ما يُريح عقلَه يُبلسمُ قلبَه.
على طاولة الاسْتقبال في هذا البيت، لا تزال زهرةُ الأوركيده البيضاء الدائمةُ الاخضرار تحرُس صورةَ الزوج الحبيب الغائب بهاء… اليوم ترافقت صورتُها مع صورته ليتجاورا معًا كما في الحياة كذلك في الغياب… وكأيقونتين تتبرّك بهما العائلة والأحبّاء صباح كلّ يوم…
جبيل حزيران 2024