قراءة في “المربع الأسود: سيرة عبد الحليم حمود”
زياد كاج
“المربع الأسود: سيرة عبد الحليم حمود”، بقلم ومجهود رنا يتيم، الصادر حديثاً عن دار نلسن (328 ص، والمتضمن مجموعة من الصور الشخصية والرسوم الكاريكاتورية واللوحات والأعمال لعبد الحليم حمود)، هو كتاب سيرة غيريّة استغرق اعداده سبعة أشهر، وقدمت لنا الباحثة فيه الفنان والكاتب “المغرّد خارج السرب”، ابن الشياح، وابن بلدة أنصار الجنوبية، على أفضل صورة، وأكثرها وضوحاً وتشريحاً وتفضيلاً. فلا بد لقارئ “المربع الأسود”، اذا ما التقى بحليم المتواضع والمتموضع في ظل العزلة الاختيارية قبل القراءة، أن يحتضنه بحرارة ومحبة أكثر ويفهمه حق المعرفة بعد اطلاعه على هذه السيرة.
في مقدمتها للكتاب الموسوعي، تقول يتيم: “.. إنه شخصية بمواهب عدة وشخصيات بكامل أدمغتها وأفكارها… متاهة معرفية علمية ثقافية..”، وصاحب تجربة امتدت طوال ثلاثين سنة “.. في حقول الفن التشكيلي، والكاريكاتور، والشعر، والتصوير الفوتوغرافي، والحروفية، وتقديم البرامج، والصحافة، وكتابة الرواية والنقد السينمائي، والتمثيل، والتحكيم في مهرجانات وثائقية دولية، والتعليم في الجامعات..”
اصدر عبد الحليم ما يزيد عن 150 كتاباً ومؤلفاً.
التقيت بعبد الحليم لأول مرة منذ سنوات قبل “زمن الكورونا” في مكتبة “فيلوسولفيا” في حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت. وكانت المناسبة توقيع كتاب بعنوان “الفان رقم 4″، للكاتبة زينب فياض، ابنة بلدته. أحببت أجواء المكان العابق بالثقافة والكتب والطلاب ورائحة القهوة واليانسون. حالة من السكر الفكري والصوفي على الطريقة “الشرعية”. وتمنيت أن تتمدد هذه الظاهرة لتشمل الضاحية كلها بدل الأركيلة المنتشرة بشكل ملفت في كافة المقاهي.
من بين الحضور – ولو كان من لون طائفي واحد – لفتني عبد الحليم حمود، لكنني لم أتحدث معه. حضرت كي أحصل على نسختي من رواية “الفان4” موقعة، وكانت مناسبة للتعارف على الكاتبة والباحثة في علم الاجتماع. وأنا من ركاب الفان بشكل شبه يومي بين منطقة المريجة وعملي في بيروت.
المرة الثانية، كانت في معرض الكتاب العربي وخلال زيارة جناح الدار المسؤول عنها وهي “زمكان” (أسسها مع صديق الطفولة شادي منصور). كانت دردشة سريعة.
والمرة الثالثة كانت في مكتب “دار نلسن” في الحمرا بحضور الناشر الصديق الاستاذ سليمان بختي. أصبح الرجل ضمن دائرة عشيرة “دار نلسن”!
كان حليم كثير الرسوب وإعادة الصفوف، امتلك الطاقة والمقدرة على القيادة في أحياء الشياح (شارع مارون مسك)، وهو يصف تلك المرحلة: “..بين الشياح، والحمرا، وأنصار كان هناك خصوبة أحداث وأخبار..”، وهو لم يكمل مسيرته الدراسية نحو الجامعة ولم يدرس فن الرسم!!. يقول: “لم أكن كسولاً بقدر كوني تلميذاً لا مبالياً بالنظام التعليمي.. زمن رائع، نجوت منه بأقل قدر من العقد”. وفضل الانعزال، واتجه الى قراءة الكتب، والمجلات، والصحف، والرسم. تديّنه المبكر جعل طفولته ملجومة بسبب ولادته في منطقة خط التماس. يُفصح حمود: “لم نكن فقراء ولا أغنياء، …عشنا نصف الحالة”. تأثر بالراديو والمسلسلات المحلية خاصة “يسعد مساكم “لأبو ملحم (صاحب الميول السورية القومية الاجتماعية). كان ذاك المراهق الذي يصرف على نفسه. وكانت موهبة الرسم المبكرة هي خشبة النجاة والضوء.
دخل عالم الصحافة في مرحلة عمرية مبكر عبر باب مجلة “الكفاح العربي”، و”العواصف” ثم “العهد”، حيث سلك درب الاحتراف. وحقق أول معرض كاريكاتور فردي في الثامنة عشرة في “مركز ناجي العلي الثقافي”. ليدخل بعده في تجربة نوعية في جريدة “اللواء” البيروتية بتشجيع من رئيس التحرير صلاح سلام سنة 1993. وكانت له نقلة نوعية في “النقاد” مع الصحافي والناشر رياض نجيب الريس، ثم في مجلة “الصياد”. وأصدر سنة 2004 دراسته المعمقة: “الكاريكاتور العربي والعالمي”.
كانت له شبكة علاقات واسعة في عالم الفن والادب والشعر. فعرف الشاعر الفلسطيني محمود درويش، والشاعر محمد علي شمس الدين، والشاعر وديع سعادة، وسركون بولس، وغادة السمان ومظفر النواب، وعبد الرحمن الأبنودي، وعصام العبد الله ، وشوقي بزيع ، وجودت فخر الدين، وزاهي وهبي وأدونيس وغيرهم. بالاضافة للموسيقي الياس الرحباني، وجوزيف حرب.
وخاض غمار العمل التلفزيوني المحترف في “المنار” و”الميادين”. وفي عام 2015 أسس مع مجموعة من الاصدقاء “جمعية حواس”.
في 25 ت2 2018، وبعد تفكير ويأس وتغيرات التكنولوجيا، قرر حليم التخلص من أرشيف رسوماته بواسطة حرقها على تلة في بلدته أنصار بحضور ابنته والشهود: زينب فياض، ويوسف يونس، وسميرة بيضون…!!! “شهود على تبخر الذاكرة بين النار والرماد”.
كمهتم ومنتج للفن التشكيلي، تواصل حليم مع الفنان عارف الريس، والفنان حليم جرداق، ومنى السعودي، وعبد الحميد البعلبكي، وحسن جوني، وفاتح المدرس..وأنجز عشرة معارض تشكيلية. وكان القاسم المشترك بين كل معارضه الجرأة الغرائبية والحروفية، حسب تعبير رنا تميم… التي اعتبرت أنه في كل انتاجه الفكري والفني “ينتمي الى ما بعد الحداثة”.
شعراً، اصدر حليم “كوكتيل” سنة 1995، تبعه “سرساب” سينة 2014، و”هايكو” سنة 2014، و”تراتيل للزمن المقدس” سنة 2015.
رغم انه لا يقرأ الروايات، لكنه خاض في كتابتها، فأصدر “الشياح”(السيرة الذاتية)، و”دفاتر نوح”، و”بوتوكس” سنة 2016، و”يروي اله السمكة السوداء” سنة 2018، و”وهم الأنا” سنة 2019، و”سخافيا” سنة 2020، و”أسمر” سنة 2022، و”الرسولة” سنة 2023 التي طبعت اربع مرات خلال عام ونصف.
وخاض غمار الكتابة الغيرية في “زياد النبي الكافر” سنة 2021، و”مارسيل ثورة وتر”، و “الطائر الاحمر ناجي العلي”، و”الصدر سحر ما فوق الغياب”. ( عاني وصديقه منصور الكثير لاخراج هذا الكتاب الى الجمهور بعد تدخلات سياسية بسبب فصل عن دفاع الامام الصدر عن الموسيقى واعتباره تحريمها نوعاً من تعقيم الانسان..)
” من طرائف العقل ولطائفه أنه يحتوي مناطق غير عقلانية!”، من فلسفة عبد الحليم في كتاب “الجمر”.
تصف يتيم كتاب “المربع الاسود” بأنه أكثر من قصة حياة فرد مختلف بغناه الثقافي، وعمقه الفكري، واتساع آفاقه ومدياته، بل تأخذنا معها في تقاطعاتها مع شخصيات، وأحداث بارزة في زمنها.
عبد الحليم حمود ظاهرة ثقافية وفنية مميزة غردت وابدعت خارج “الكادر” والحيز الاكاديمي متسلحة بموهبة ربانية فشكل حالة استثنائية خارج سرب العشيرة والملة والطائفة.
وكم نحن بحاجة لأمثاله في الملل والطوائف الاخرى في بلد ممزق بائس، يبقى نور النفق فيه بعيد جداً…