قراءة في رواية “أمنيتي تحت شعاع القمر” لجورج حداد

Views: 345

د. جان توما

كنت أجولُ مع وفدٍ فرنسيٍّ في حاراتِ الميناءِ البحريّةِ، وكنتُ مستفيضًا في شرحِ آثارِها العمرانيّةِ من فينيقيّةٍ ورومانيّةٍ وإفرنجيّةٍ وتركيّةٍ وغيرِها حين سألتني إحداهُنَّ: هذه حاراتُ اللهوِ فأينَ الأولادُ؟ أليسَ من أولادٍ في هذه الأزقةِ ليلعبوا ويفرحوا؟ لم أَجِدْ جوابًا، فالصغارُ مع أصدقائِهم الآليينَ الافتراضيينَ  في الغرفِ المنعزلةِ، لكن الجوابَ الذي شفاني أتَى به جورج حداد بروايتِهِ ” أمنيتي في شعاع القمر” إذ أعادَ الأطفالَ إلى الأحياءِ الحيّةِ، فعلا صُراخُ الأطفالِ فيها، وعاودَ جورج لعبةَ الحياةِ في هذه الحاراتِ، بعيدًا عن الذكاءِ الاصطناعيِّ الآليِّ، فأعادَ إنسانيّةَ اللعبِ في أحياءَ اشتاقَتْ إلى وجوهِ أطفالِهَا، فكان جورج حداد في كتابِهِ “بابا نويل” المدنِ والقرى والدساكرِ الفارغةِ، يعيدُ للحاراتِ ابتساماتِها، ويدفعُ الأطفالَ إلى الشحبرةِ على الحيطانِ وإلى ملاحقة “دنبر” البلدية و” عربجيّ عربة الكاز، أو لدفعِ عربة البضائع مع البائع  فرحين بزمّور بائع البوظة فيلحقونه ليبرّدوا شفاهَهمُ وحناجرَهُم من حرارةِ رملِ الطريقِ، وقد كرّت سبحة واضحة من صور الطبيعة في الرواية كإطار لها: الشروق، شمس، ربيع، صيف، عصافير، نافذة، عبور، حلم،  ذكريات ، السحب (ص9)، ألعلّ هذه الصورُ هي التي تعيدُ إلى الإنسانِ اتزانَهُ وزمنَهُ الأولَ؟ حيث “يشرقُ في قلوبِنا معنى كلمةِ إنسان، فنفهمُ الإنسانيّةَ” (ص 8)، وهذا قاده إلى عالمِ الحيوانِ القنفذِ( ص61) ويظهر الهرّ برقوص (64) والدجاجة جناح والأخرى عاصفة (78)، ومن يفسّرُ له ويشرحُ هي الأمُّ التي تقومُ، وهكذا يجبُ أن تكونَ الحالُ، هي الأساسً تبقى، والانترنتُ بديلٌ في غيابِهَا أو تقاعسِها.

 

روايةُ جورج حداد سيرةٌ ذاتيّةٌ وغيريّةٌ، تبدأ مع أمِّهِ التي أهْدَتْهُ دفترَ يوميّاتٍ، قائلةً له: ” يمكنُكَ أنْ تكتُبَ عليه يومَكَ وهو طفلٌ ” شقيٌّ، مشاغبٌ، مُتْعِبٌ، (ص 58)، كثيرُ الفضولِ والحركةِ، وما هي مناسبةُ الإهداءِ؟ هي اقترابُ عيدِ الميلادِ، في استعادِةِ لحبورِ الأعيادِ العامّةِ العفويّةِ وليستِ الخاصّةُ المنتشرةُ اليومَ والسائدةُ بالزخرفةِ المصطنعةِ. (ص38). هذهِ صفاتٌ لا تَعْكِسُ قلبَ البطلِ، فهو مثلًا يعترفُ صادقًا بأنّه كَسَرَ زجاجَ الصفِّ لإنقاذِ زميلِهِ البريءِ، الذي كادَ أنْ يكونَ الضحيّةَ زورًا (ص101)، ما دَفَعَهُ إلى تلقّي أوّلِ نصيحةٍ من والدِهِ: (ص 104 ) “الإنسانُ يا ولدي هو الصدقُ، الإنسانُ يا ولدي هو الشجاعُ”. يؤكّدُ جورج حداد في سردِيتِهِ على سُلَّمِ القيمِ أو الفضائلِ، من دونِهَا يَبْهُتُ العالمُ.

لعلَّ مشكلتي الوحيدةَ مع جورج حدّاد أنّه، من مطلِعِ الروايةِ، رَصَفَ المدرسةَ قَبْلَ الأسرةِ، لكنَّه ُعادَ واستدركَ ذلك في مفصِلِ تدخّل الأمِ والأبِ دائمًا في التوجيهِ والرعايةِ، كما في قوله: “يذهبُ إلى المدرسةِ على أنّها هي البيتُ الحاني والمربّي”( ص 7) على الرّغمِ من تقديمِهِ الصورةَ التقليديّةَ لناظِرِ المدرسةِ بملامِحهِ القاسيةِ وبنظاراتِهِ السوداءِ ( ص13) وفي تناولِهِ وجوهَ القصاصِ فيها: جدارُ القصاصِ (ص14)  والمشاغبةُ (ص 20) ، والشيطنةُ على الجدرانِ خربشةً وتصريحاتٍ( ص10) لتصبحَ الجدرانُ كلُّها كجريدةٍ تحملُ خبراتِ الطلابِ وتجاربَهم كما تحمِلُ جذوعُ الشجرِ قصصَ الحبِّ وأسماءَ العاشقينَ” (ص12)، والاعتذارُ بعد مشادةٍ مع زميلٍ (ص24 )، ليصبحَ ” بالفعلَ صديقي المفضّل” (ص)24 ليصحَّ القولُ ” ما تاخذ صاحب إلّا بعد قتلة”.

إنَّ هذا الاضطرابَ الحاصلَ في المدرسةِ، هو أمرٌ طبيعيٌّ، يُبرزُ الكاتبُ صورةَ الوالدينِ والأجدادِ، فإنْ ضحكَ “أشْعُرُ أنّ أمي قد سَمِعَتْهَا من شُرفةِ منزلِنا (ص 27 ) ، كما يُبرزُ دورَ الأمِ والأبِ بوضوحٍ: الأمُّ تهتمُ بطعامِهِ ووالدُهُ يُرَبِّتُ على ظهرِهِ (ص 34 )، كما يذكُرُ بيتَ الجَدّةِ( ص40) ويذكُرُ الجَدَّ ( ص43)، ويجدّدُ أيامَ تخزينِ مؤونةِ الشتاءِ مع جدّتِهِ. (ص 64)، ويتشوّقُ إلى حلوى أمِّهِ التي لم نَقَعْ على اسمِها الحقيقيِّ  ما هذه الحلوى التي تُشْبِهُ القُطنَ؟ (ص36) وتصبحُ بُوصْلَةُ العبورِ، فالاتجاهاتُ كلُّها كحلوى القُطْنِ (ص48)، هذا كُلُّهُ لم يمنعْ وضوحَ موقفِ الكاتبِ من أبيه (ص 52)، فصورةُ الأب تسودُ الروايةَ، ففرَحُهُ لا يوصفُ حين نامُ بالساعةِ التي تلقّاها هديّةً من والدِهِ (ص44)، ومن الواضحِ سطوةُ الشوقِ الدائمةُ إلى أبيه وأمِّهِ (ص89)، ما أجملَها صورةُ  الشّوقِ إلى أمِّهِ ليلًا والنافذةُ مفتوحةٌ (ص89)، علَّ الجوى إذا صارَ نسيمَ ليلٍ يَبْلُغُ إلى الوالدَينِ شوقًا وحبًّا.

بالعودةِ إلى شخصيّةِ ظهرَتْ في الروايةِ، هي شخصيّةٌ افتراضيّةٌ حالمةٌ هو “أطلس” الذي يرافقُ البطلَ في أغلبِ مفاصلِ طفولتِهِ، فـ”أطلسُ” يتدخّلُ ويعيدُ العصفورَ الضائعَ الذي يبحثُ عن أمِّهِ (ص 81)، ونرى الفتى يُبحرُ أكثرَ مع “أطلسَ” الفضائيِّ:” كنتُ أجمعُ هذا الغبارَ في حقيبتي كلَّ مرّةٍ وأهديهِ لصديقي القمرِ كي يضيءَ به البيوتَ في ليالي الشتاءِ” (ص 33)، امتزَجَتْ هنا ثقافةُ الكاتبِ مع روائيةِ الفتى، فاستحضرَ فكرةَ الغبارِ الذي كانَ يجمعُهُ المتنبي في معاركِهِ إلى جانبِ سيفِ الدولةِ ويملأُ مِخَدَّتَهُ بهذا الغبارِ لينامَ على أمجادِهِ.

 

لفت انتباهي في الروايةِ عبارةُ: “الوقوفُ بالصّفِ بحسبِ الطولِ” (ص 12) في وصفِ تراصُفِ الطلابِ في الملعبِ قبلَ الدخولِ إلى قاعاتِ التدريسِ، وهذه الظاهرةُ ما زالَتْ متنوّعةً، وكأنّها تعويضٌ لقصيرِ القامة عن هذه الوضعِ الجسديِّ، فيما طويلُ القامةِ يقفُ متأخّرًا بسببٍ جسديّ أيضًا، ولكن، هل يصحُّ هذا التراصفُ في التربيةِ والثقافةِ؟ هل تصحُّ هذه المقولةُ في ترتيبِ كتبِ المكتبةِ مثلًا؟ هل نَرْصُفُ الكتبَ وِفْقَ الطولِ أو حجمِهَا؟ أم وفقَ مضمونِها؟ دوواينٌ، رواياتٌ؟ في الثقافةِ والتربيةِ لا شكلَ ولا حجمَ بل مضمونٌ وعقلٌ، وكذلك في الصداقةِ ومعناها، أنتَ تذهبُ إلى الدواخلِ  في تمتينِ علاقَتِكَ بهذا وذاك، لا إلى شكلِهِ وحجمِهِ، لذا تأتي خلاصةُ الروايةِ عند جورج حدّاد واقعّيةً وفاهمةً للعَلاقاتِ البشريّة، إذ يقولُ: إنَّ الهدايا الحقيقيّةَ تستمدُ معناهَا من وجودِ الأصدقاءِ، وأروعُ أمنيةٍ يمكنُ للإنسانِ أن يتمناها على الإطلاق،ِ هو أنْ يُمْضِيَ ليلةَ العيدَ برفقتِهِم، تلكَ هي الهديةُ الأجملُ للعيدِ” (ص109).

لعلَّ هذه الروايةَ تُعيدُ العيدَ الذي فقدناهُ، وتسترجِعُ: “ضحكات الصبيان و”غناني” زمان، ردّتلي كتبي ومدرستي والعمر اللي كان، وينساني الزمان على سطح الجيران”.

***

(*) مداخلة الدكتور جان توما في ندوة كتاب ” أمنيتي تحت شعاع القمر” للدكتور جورج حداد الخميس 12 أيلول 2024- أميون- حديقة عبدالله سعادة.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *