المحبةُ ومجلسُ قيادةِ الشرّ

Views: 144

 الدكتور جورج شبلي

لن أستَرسلَ في مقاربةِ فلسفةِ اللّاهوت، وهي عِلمٌ يَثِبُ بالعقلِ الى فَهمِ طبيعةِ الله، يَنشغلُ بوجودِهِ الذي يُزيلُ الشكَّ، ويتقصّى فسحاتِ الأُلوهةِ المُهتمَّةِ بالمخلوقات، وبمستوى حظوظِها عندَ باريها. وهذا، بالذات، ما يُخَوِّلُ أيَّ باحثٍ كَشفَ مُخَبّآتِ الخَلق، بدءًا من صُنعِ آدمَ بالطّين، وتثبيتِ الرّوحِ فيه، حتى قرارِ افتدائِهِ العجيب.

هذا الينبوعُ الذي تفيضُ منه الإيديولوجيّةُ الكَونيّةُ، أقطفُ من قُطعاتِهِ حركةَ المحبّةِ، متسائِلًا كيفَ تسلَّلَت، وهي السماويّة، الى آدمَ وهو ماديٌّ، لتستقرَّ في كيانِهِ الى الأبد ؟

لقد اعتبرَ المُشتَغِلون بالأسرار، كالإيمانِ مثلًا، أنّ المحبّةَ معَقَّدةٌ لا يمكنُ ضَبطُها بِشَرح، أو تقييدُها بعلاماتٍ، أو التّعاملُ معها برموز. لكنّهم قَوَّلوا قرائحَهم وصفًا نَسَجَ للمحبةِ رداءاتٍ طرَّزَت جَمالَ صورتِها، لتنسحبَ على فَهمِ الناس، وهي اللّغةُ الكونيّةُ العابرةُ للزّمانِ وللمكان. 

المحبةُ هي حضارةٌ غيرُ مكتوبة، منذ ما قبلِ عصرِ النُبُوّات، ولن يبقى، بعدَ زوالِ المادةِ، سواها. وحدَها قادرةٌ على إخراجِ العواطفِ من مَعاقلِها، فوَتَرُها طَيِّعٌ، وبصماتُها وَحداويّةُ النّغمة، وهويّتُها أَثَرٌ وليسَت نَمَطًا، ولأنّه لم يَسبَقْ إليها أحدٌ في تَفتينِ النّفسِ حتى أعماقِها، لذا، أَوصى اللهُ بها، فجعلتِ الإنسانَ، بإحساسِه، يفهمُ الجَمعَ بين الماديِّ والجَوهر، بمعنى أنّه، بها، فتَّقَ الإعجاز، ليَرِثَ ذَوقًا لا يموت.

المحبةُ ثورةٌ فازَت على المستحيل، لأنها، فينا، وكيلةُ السّماء. لكنّها مُنِيَت، بين البَشَر، بتائقينَ الى البَغضاءِ، والحقد، والخبث، ولم تغلِبْ عليهم نزعتُها الآسِرة، فكانت، معهم، منقوصةَ الحظوظ. هؤلاءِ فقدوا قلوبَهم البَصيرةَ في صنعةِ المحبة، فكانت هذه، معهم، عاقِرًا، لم تظهرْ ظهورًا مُبهِرًا، لأنّ الإِغواءَ كان للنزعةِ الأنانيّةِ المُنطَوِيَةِ التي لم تُشبِعْ، مرّةً، كَبِدًا. هؤلاءِ مزّقوا بِشِفارِ لهاثِهم النَّرسيسيِّ رقرقةَ المحبة، وجعلوا شعاعَها المُلَوِّنَ للمشاعرِ يَتَّكِئُ على نِصالِ الحزن. 

المحبّةُ بها، دوماً، جوعٌ الى وجود، ليمتدَّ نَفَسُها الى مدى إنسانيٍّ شامل، فيُكَوِّنُ، بِحَدِّ ذاتِهِ، عالَمًا. لم تكنْ نَظمًا خواطرُهُ خامدة، إنّما هي صفاءٌ مصدرُهُ ذاتُ الله، ونِعمةٌ عظيمةُ القَدْرِ، لم يَقعْ مثلُها إلّا في النَّدْر، لأنها أَليفةُ الأحاسيس، تخاطبُ الوجدانَ بِدَعواتِ الرّجاءِ التي تُماثِلُ تراتيلَ المُتَدَيِّنينَ على فكرةِ حَمدِ الخالِق. والمحبةُ خبزٌ صَلبُ العود، كالنُّبلِ عندَ الفقراء، لكنّها لم تبلغْ، عند البعض، حدَّ الارتياح، فالكثيرون كان همُّهم تَسَلُّقَ أدراجِ الشوفانيّةِ ليُخَزِّنوا ذواتهم في خِلَعِها، ملتَمِسينَ الكَيديّةَ، والتَصَنّعَ، والتّزويقَ المُبهَم، ولم يكنْ بينهم وبين المحبةِ مؤانسة، فاعتقدوا أنّ المصلحةَ لهم أَوفَر.

المحبةُ هي الشواطئُ التي تُسكِرُ الرّوحَ، فهي مُتَّحدةٌ بها بِما يُشبِهُ الحُلول، فلا يَذبلُ عطرُها طالما هي في القلب. أو هي حركةٌ تحريريّةٌ من جَسَدانيّةِ الشَّهوات، وعوالِمِ الشَّر، لذا، هي حالةٌ فَوْإِنسانيّة تأتي ما لا يستطيعُهُ أيُّ شعور، وتُنتِجُهُ أيُّ طبيعة. إنّ مَنْ مشى أشواطًا بالمحبةِ، وكرَّسَها رسالتَه، خَزَنَ، في قلبِه، ثروةَ الفرح، وجَمالَ الوجود، فمَتَّنَ الخيرُ صِلَتَهُ به، واندمجا في عشقٍ طاهِر.

في تاريخِ النّاس، أيّامٌ سودٌ لَصيقةٌ بالحَجَر، فيها جرحٌ بالِغُ النَّزفِ لم تُضَمِّدْهُ آمال، فباتَ عارِيًا من أيِّ وعد. وإذا تَنَقَّلنا، من مَقطعٍ الى مقطع، في مُعجَمِ هذا التّاريخ، وتَطَلَّعنا الى أعوادِ المآسي، نقعُ على زلّاتٍ، وعَوراتٍ، وآفاتٍ، جعلَتِ المصالحةَ مع المحبّةِ قاتِمةَ اللَّون، فالتَلَوُّثُ الخُلُقيُّ دمَّرَ القِيَمَ، ولم يعدْ عندَ الملوَّثين عَصفٌ ليقتحموا أملاكَ الشّياطين، وغابَت عنهمُ يقظةٌ لحظاتُها تُتَرجِمُ لِدُهور، ولم يعدْ واحدُهم إِلفًا للصّدقِ، قَولًا وحياة. وكأنّ هؤلاءِ بحاجةٍ الى دَليلٍ يُنَقِّبُ عن أيِّ أَثَرٍ للمحبةِ في ذواتِهم، فلا يصادفُ إلّا التَحَجُّرَ، والبغضَ، والعتمةَ، ومسافاتِ الوَحل.  

أيّها الرّاكضون في أنهارِ السَّراب، يا مجلسَ قيادةِ الشرِّ، في عالَمِ النّاس، عسى ألّا تموتَ المحبّةُ النبيلةُ في نفوسِكم، لكي تعودوا الى مَسقطِ رأسِها، واعلَموا أنّ اللهَ لم يَبكِ، عندما صُلِبَ يسوع، لكنّه، عندما صَلَبتم المحبّةَ، بكى.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *