سجلوا عندكم

الحنينُ مزمور القلب

Views: 44

الدكتور جورج شبلي

إنّ الحنينَ هو حالةٌ من الصّفاءِ، طوَّقَت عُنقَ القلب، فاستظهرَ القلبُ لسانَه بترتيلاتٍ تُماثلُ صلاةَ الكُهّان، لكنّها في هيكلٍ لم تُرَوّضْهُ سُنَنٌ، ولم يجمدْ في طقوس، فهو وليدُ الإحساس المُتوثِّبِ الى النُّطق، في منفسَحٍ نفسيٍّ وِلاداتُهُ من نار.

إنّ الحنينَ هو خبزٌ صلبُ العودِ، كالنُّبلِ عندَ الفقراء، وهو تأمّلٌ بُعدِيٌّ هَمُّهُ أن يتسلَّقَ أدراجَ القلب، ليخزِّنَ ذاتَه في خِلَعِه، ربّما حتى يَبيتَ في اكتفاء، ولكنْ، قَلَّما يبلغُ حدَّ الارتياح، لأنّ القلبَ أَمْنَعُ من أن ينقادَ الى الهَدأَة وهو في مَوَجانِ الحنين، فهل تُسأَلُ الخمرةُ، وهي في ذروةِ النّشوة، كَمْ يُساوي دَنُّها ؟؟؟

إنّ الحنينَ ينقلُ القلبَ من حالةٍ متقوقعةٍ، مُحتَجِبةٍ نارُها، الى حالةٍ منفتِحةٍ على أرجاءَ لا جُذورَ ماديّة لها، تتفلَّتُ من قُمقُم الزّمان والمطارح، لتمتدَّ الى مدًى شموليٍّ يكوِّنُ، بحدِّ ذاتِه، عالَمًا. وبِقَدرِ ما يَظهرُ الحنينُ لوحةً مُتحِفةً تُشيعُ النّداوةَ في لُهاثِ القلب، وأرجوحةً يتمدَّدُ فوقَها احتياطيُّ الأمل الذي فيه، بقَدرِ ما هو، بحَسبِ المشاعر، جولةُ هذا القلبِ بين سنابلِ الدّموع، شعاعُهُ مُلَوَّنٌ بالضّباب، ومُتَّكئٌ على نِصالِ الحزن !! 

إنّ الحنينَ هو رقرقةُ الجَداولِ، لا الجداول، وهو وَقعُ الحجرِ، لا الحجر. يحملُ خَدّاهُ خجلًا استمدّاه من موجِ القلبِ المتلاطمة، ليُبيِّنَ المسافةَ بين عِصمةِ الذّكرى، وعارِ النّسيان. لكنّ القلبَ الذي أَيقنَ أنّه يُخطئُ المَرمى إذا جعلَ بساطَ الحزنِ والتّلاشي، مَثوى الحنين، لم يحرقْ مواسمَ  البشاشةِ التي كان بينه وبينها مؤانسة، فالتمسَ نَبضُهُ من رونقِها قدرةً على سَبكِ خواطرَ خلّابة، هي شيءٌ كالوصيّة.

إنّ الحنينَ طريقٌ غيرُ ضيِّق، وهو مزمورٌ نَوَّطَتهُ أَنَّةٌ ولكنْ بدونِ شَهقة، فالقلبُ بَصيرٌ في صنعِها. إنّ لَحنَ الحنين في مجاري القلب، ليسَ عاقرًا، بل هو خصبٌ كالنِّيلِ في أرضِ الفراعنة، وكقدموس على شواطئ الورد، سَرَّحَ مقاماتِه في أنسابِ القلب، فتَحَكَّمَ صداها في خلجاتِهِ تَحكُّمَ الآمِرِ لا المأمور.

إنّ الحنينَ ليس حادِثًا، أو هاجسًا يُعايشُ القلق، بل هو تلك اليَدُ التي يغفو القلبُ على زِندِها، ويفتتحُ، منها، صَحوتَه بِلَمِّ تباشيرِ النّور، مثلما ينتفضُ العصفورُ وقد بَلَّلَه النّدى. لِذا، لا يبقى الحنينُ في وحشةٍ ينتظرُ مَنْ يناديه، ويُحْييه، ليقول، وما يقولُه ليس إشارات، إنّما هو ضوءٌ يرتقي الى يقظة، ورسالةٌ تَصلُ الى الأَبعدِ البهيّ . وهكذا، يحفظُ الحنينُ هويّتَه، كلّما نَبَضَ قلب، ويبرهنُ على حضورِه، حَيًّا، صادقًا، غيرَ متألِّم، وكأنّه يفتدي نفسَه إذْ يغسلُ ما تأصّلَ في القلبِ، بسببِهِ، من وجع.

يمكنُ للحنينِ أن يعدلَ عمّا يُعرَفُ به، فيرتقي الى مقامِ التّجربةِ الرّوحية، ويعقدُ تحالفًا مع التأمّل، ويطرحُ نفسَه مسألةً فيها سُمُوّ، وعمق، وجِدّ، ليشكّلَ صدمةً تستدعي، بالتفكّر، مراعاتَه بالمسامحة. إنّ النّعمةَ هي أن يفتحَ الوجدانُ نافذةً على بهاءِ الحنين، ليقيمَ حوارًا مُثمرًا معه، وهكذا، يتنقّى مِمّا يُنسَبُ إليه من خطايا…   

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *