جذورُ الإرهاب

Views: 667

محمد إقبال حرب

منذ فترة قصيرة، خضعتُ لعمليّة جِراحية كبيرة انتهت بخروجي اليوم حاملًا أوجاعي ولائحةً طويلةً حول كيفيّة العِناية بنفسي خلال فترة النقاهة. ما أن استقرّيتُ على سريري حتى وجدتُني ممسِكًا بالهاتِف لأطّلعَ على أخبارِ عالمِ الفايسبوك، الذي غبتُ عنه طويلًا، هربًا من الوجعِ والتفكير في آلامي الحاضرة والمُقبلة. بعد دقائقَ، لفتت انتباهي صورةُ طِفل تحت عنوان “عذّبته بالطعنِ والكيّ، والصّعق والخَنق”. الصورة وما كُتب تحتها لا يتوازنان، إذ من غير المعقول أن ينطبقَ العنوانُ مع الصورة، برأيي.

نقلني الخبرُ إلى صدمةٍ صاعقةٍ أنسَتني أوجاعي وآلامي وهمومَ مرض السرطان. قرأتُ، جَحظت عيناي كأنما أريدُ التأكُّدَ من الخبرِ الذي كتبَه بَشرٌ عن بشرٍ. للتيقّن من صِدق الخَبرِ ووحشيّةِ البشر بحثتُ عن مصدرِ الخبرِ فوجدتُه على صفحات وسائل الإعلام والتواصُل مُرفقًا بفيديو يحتوي اعترافات القاتلة. زوجة أب ناداها الطفلُ مُتوسّلًا، مُستغيثًا “ماما ارحميني” فأجابته بضربة اسكتَته إلى الأبد حاملًا تاريخًا من التعذيبِ ضربًا وطعنًا وكيًّا في أماكنَ عدة من جسدِه على مدى أيام طويلة، فضلًا عن جُرعات من الصّعق الكهربائي وإجبارِه على تناول المِلح بكميات كبيرة عِوضًا عن دسّه في عينيه.

هل هي جريمةٌ أم أكبر؟ أم أن اللغةَ حجَبت التعريفَ بما يستحيلُ حصولَه؟

هل موسى قربانٌ شيطاني أم ضحية ساديّة لا تنتمي إلى جِنس البشر؟

كم من “موسى ولاء” يعنَّف، يُقتل، يُحرق، يُصعق كل يوم؟ ليس في العراق فحسب، بل على امتداد بلاد الشرق عامة والبلاد العربية خاصة؟

من علّم تلك الخالة “زوجة الأب” هذه الصُّنوف من التعذيب؟

من أسكتَ المُدرّسين عن سؤال موسى حول كدَمات الوجه والجسد وسبب ارتدائه ثياب الشتاء في صيفٍ حارِق؟

بل، وهنا الطامةُ الكبرى، ما الذي جعلَ الأبَ عديمَ الاكتراثِ لكلِّ آثار التعذيب على جسدِ فلذةِ كبده إضافة إلى بُقعِ كدمات الوجه واقتلاع أظافرِ اليدين؟

لم أتحمّل تلك الاسئلةَ وقراءة الخبر في مواقع عدّة للتأكد، لأن المكتوب والمسموع من اعترافات زوجة الأب وأقوال الأب أصعب من أن يُسطّره كاتبُ أفلامِ رُعب.

هل صدق المثل الذي يقول “الناسُ على دين مُلوكهم”؟

طُرق تعذيبِ موسى هي نسخة طبق الأصل عما يُرتكَب في سجون بلد القاتلة “الحرق، والخنق كما الضرب واقتلاع الأظافر والصعق الكهربائي”. الفرق الوحيد هو تحويل المنزِل الى زَنزانة بقيادة زوجة أب سادية تستمتعُ بتنكيلٍ طفلٍ هي مؤتمنةٌ عليه، ووالد لم تتحرك مشاعرُه وإنسانيّتُه كما أبوّتُه لتخليصِ فلذةِ كبِده من براثن زوجتِه وكأنما هي تُحقّق أحلامَه في تمزيق وتفكيك ولده من زوجته السابقة.

ليست زوجةُ الأب وحدها جلادة وقاتلة موسى، وليس الشريكُ هو الوالد فقط، بل كلّ من سكَت عما رأى من حُروق وكدمات وأناملَ مسلوبةِ الأظافر، من كبير وصغير في البيت والمدرسة وكلّ مكان كان موسى حاضرًا فيه.

هناك ألفُ ألفُ موسى، وألفُ ألفُ سادٍ وسادية تعلّموا من الحاكِم سُبل التعذيب والتنكيل في من لا يروق لهم انتقامًا وحقدًا، حتى أصبحت دواخلُهم سوداء شيطانيّةً اتخذت الديكتاتورَ مثلَها الأعلى فنسخوه وتبنّوا أفكارَه.

القضيّة ليست محليّة في العراق فحسب، بل تتجاوزُه الى مُعظم الدول المُجاورة بنسب مُتفاوتة حيث أصبحَ التعذيبُ مُتعةً، والقتلُ نشوةً في مجتمعٍ يدّعي الإيمانَ ويُقيمُ المُناسبات الروحية بقلوب سوداء وبأيدٍ مُلطّخة بدماء الابن والصديق، والزوج والرفيق. نُسخةُ الحاكِم السادي تضاعفت في مجتمعاتنا، فأصبحت البيوتُ زَنزانةً شيطانيّةً تُمارَسُ فيها أعمالُ الإرهابِ والتعذيبِ بدمٍ باردٍ فاقدِ الرحمة والإنسانيّة. يقيمون حفلاتٍ ساديّة فوق بِساط من نجيع الأقرباء والمُقرّبين.

من قال إن الإرهابَ مستوردٌ؟ من قال إنه صناعةُ الأعداءِ؟

إنه صناعةٌ وطنيّةٌ عَبر عصورٍ من الحِقد والكراهيّة والتناحُر بين أهل البيت الواحِد والدين الواحِد والوطن الواحِد. صناعةٌ تفنّن في تطويرها أربابُ الساديّة مُتكئين على مقولة “من أمن العقاب أساء الأدب” في حقيقة موتِ العدالةِ في ضمير السُلطان وزبانيّته، في عصر أوجَد فيه نظامُ عدالةِ السُلطان ألفَ بندٍ يبرّئ القاتلَ ويسجُن القتيلَ.

أصبحت الأوطانُ عشائرَ وأحزابًا وطوائفَ تُبيحُ القتلَ، تارة بثمنٍ وأُخرى لوجه الله. إنها مصفوفةٌ إرهابيّةٌ محليّةٌ مُتشعّبةٌ تؤتي أُكلها في مُجتمعٍ لم ينل من حُكّامه وصفوة مُجتمعِه إلا الرُعبَ والخوفَ، ولم يحصُد إلّا الألمَ فبات الحقدُ والانتقامُ ديدَنه، يُفرّغُه في أجسادِ أرحامِه قبل الغُرباء مُستعينًا بسيرة الحاكِم وقدسيّة القرابين التي يقدّمُها إلى شيطانٍ يعبُدُه في أعماقِ سَريرته.

غرة آب 2023

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *