مؤتمر “الأخوة الإنسانيَّة والحوار” في جبيل
شاركت دكتورة إلهام كلّاب (رئيسة جامعة اللاعنف في لبنان) في المؤتمر الأول للجنة الحوار الوطني في بلاد جبيل في عنوان “الأخوة الإنسانيَّة والحوار” الذي عُقد في قاعة البطريرك الحويك – ثانوية مار يوسف لراهبات العائلة المقدسة المارونيات – جبيل، في حضور وزير الثقافة غسان سلامة ممثلا رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام،وحشد رسمي وروحي وثقافي.
في ما يلي كلمة وزير الثقافة وكلمة د. إلهام كلّاب في عنوان “من أجل السَّلام العالمي والعيش المُشترك، وتوصيات المؤتمر.
غسان سلامة
“لقد شرفني فخامة الرئيس ودولة الرئيس تمثيلهما في مؤتمركم الاول للحوار، ولم يطلب مني ان القي كلمة في هذه المناسبة، انما دعواتكم ستستجاب عفويا”.
واضاف: “يقال ان الحوار هو بديل عن القتال، وفي علمي ان هذا الامر غير صحيح، فانا اعتقد ان الحوار شكل من اشكال القتال، لان القتال هو مع الآخر بينما الحوار هو قتال مع الذات لكي نقبل بوجود الآخر والاستماع اليه، ولكي تكون صادقا معه فلا يتحول الحوار الى نوع من المغازلة غير البريئة، بالتالي هو قتال قاس بقسوة القتال انما هو قتال مع الذات، ولذلك انني ادعوكم لحوار من هذا النوع، حوار تقاتلون فيه غرائز رفض الآخر والميل لنبذ كل من اختلف عنا في اللون والدين والطائفة وقضايا اخرى”.
وتابع: “فما الحوار داخل المجتمع الا الخطوة الاولى لبناء العقد الاجتماعي، الذي في جوهره بين مجتمع مستقر وبين دولة قادرة، لا يكون العقد مع مجتمع غير مستقر منقسم على مستوى عال من التنافر، ولا يكون مع دولة هشة عاجزة مترهلة، انما الحاجة الى مجتمع قوي والى دولة قوية، لا تفكرن للحظة ان الدولة القوية تقوم على مجتمع ضعيف، او ان المجتمع الضعيف يزهر في ظل دولة ضعيفة، انما الحاجة لقوة الدولة وقوة المجتمع في آن معا”.
واردف سلامة: “لذلك ان البيان الحكومي الذي تصدر عمل هذه الحكومة التي اتشرف الانتماء اليها يأتي على ذكر الدولة 22 مرة وعلى ضرورة اعادة بنائها، واحتكارها للسلاح وبسط نفوذها على كامل الاراضي بقواها الذاتية، ويأتي ايضا على مسؤوليتها في الجوانب الاخرى من الحياة العامة، لاننا سنكون على السذاجة من قدر كبير ان اعتقدنا ان بوسعنا ان نخرج من كبواتنا المتكررة وانهيارنا المالي ومن الجائحة التي فتكت بنا ومن هجرة شبابنا، وترهل اداراتنا العامة، ومن تهميش وضعنا بين دول العالم، ان اعتبرنا ان باستطاعتنا ان نخرج من كل ذلك دون اعادة بناء دولتنا بأنفسنا، فنحن سذج لا نستحق لا الحكم ولا السيادة ولا الاستقلال، فعلينا بناء تلك الدولة، ونحن منكبون على ذلك”.
وقال: “ان آلية التعيين في الادارات الكبرى ستلغي باب التنفيعات، وانا فخور بانني ساهمت وشاركت في وضعها، وقد انتهينا اليوم من صياغة مشروع القانون الثاني من ثلاثية تبدأ برفع السرية المصرفية، والذي ارسل الى مجلس النواب الماضي، وعملية هيكلة المصارف الذي انتهينا منه في جلسة مجلس الوزراء هذا الصباح، انتهاِءً بما يسمى بقانون سد الفجوة او توزيع الخسائر بعد الانهيار المالي والمصرفي الذي تعرفونه”.
أضاف: “اذا كنا نعتقد ان هذه القضايا التي لنا مسؤولية كبيرة في حصولها سابقا ستحل بنفسها او بمعجزة تحصل لنا، فهذا الامر ايضا على قدر من السذاجة، علينا ان نعالج هذه القضايا الشائكة بأنفسنا وانا فخور بالانتماء لحكومة وضعت على عاتقها معالجة هذه الامور بصورة مباشرة”.
وختم سلامة: “احيي وجودكم جميعا ولجنة الحوار في بلاد جبيل، لكي تبقى هذه المنطقة نموذجا للعيش المشترك، يستقي منها عموم اللبنانيين بعضا من مسلك حضاري متقدم وفعال”.
د. إلهام كلّاب
مساءُ الخير
أيها الأجلَّاء
أيها الكِرام
لن تُسعِفَني هذه الدقائقُ القليلة المُتاحةُ لي سوى بالسرد السريع لِلوقع العميق لهذه الوثيقةِ على المُستوى العالمي، المُتعطِش الآن إلى الأُخوّةِ والعدالةِ والسَّلام.
لقد شابهَ إعلانُ هذه الوثيقة إلقاءَ نيزك في بُحيرةِ العالم المُلوّثِ الآن بالعُنف والدمّ والكراهيّة، ولنا منها في الشرق وللمُفارقة ونحن مهدُ الديانات التي دعت إلى السَّلام، أقسى أنواعِ الإبادة والقتل والوحشيّة. ولنا في جحيمِ غزّة بديلًا عن شهادةِ وتعاليمِ أنبياء فلسطين.
هذه الوثيقة التي وقَّعها قداسةُ البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكيَّة وفضيلةُ الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيّب شيخ الأزهر الشَّريف في أبو ظبي في 4 شباط 2019، كانت ثمرةً للصَّداقةِ الأخويَّة بين شخصيَّتين دينيَّتين عظيمتَين، وكانت تردُّداتها استجابةً لتوقِ الإنسانيَّةِ إلى إحلال الأُخوّةِ بدلَ العصبيّاتِ والعقلِ بدلَ الغرائز والمحبّةِ بدلَ العُنف والحَدبِ على كُلِّ ضعيف واتِّساع القلب لكلّ تنوّع واختلاف.
هي وثيقةٌ كُتبت بأُخوّة، وتواضُع، وتسامٍ، وحِوار، كخارطةِ تعايُشٍ ودستورٍ للتقارُب بين الأديان، فكيف كان وقعُها عمليًّا في العالم، وكيف تلقّفتها الشُعوب والدُّول وما الذي استوحته منها.
سأذكُر بسُرعة بعضَ هذه المُبادرات الدوليَّة، علَّنا في لبنان نستوحي، نُشارِك في نشرِ قِيَمِ ومفاهيمِ هذه الوثيقة، ولبنان هو الموقع المثالي للتنوُّع والحوار وابتداع المواقِف واللِّقاءات والحُلول.
أحصُر كلامي في ذِكر مثال عن المؤسّسات، واللِّجان، والمجالِس، وإنشاء الجوائز، وإقامة المؤتمرات، وإصدار الكُتب والرَّسائل الجامعيَّة، المناهج المدرسيَّة، والمتاحِف، ومراكز الدِّراسات… والمُبادرات الإنسانيّة الجامِعة.
1-تبنَّت الأُمم المُتَّحدة الوثيقة وسعت لإضافتِها إلى وثائقِ حُقوق الإنسان الدوليّة، فاعتمدتها ووقّعتها وأعلنت ٩ شباط يومًا عالميًّا للأُخوّة الإنسانيّة يُحتفل به منذ العام 2020.
2-تأسَّست اللَّجنةُ العليا للأُخوّة الإنسانيّة، وهي الجِهةُ الوحيدة الدوليّة المُستقلّة والمُكلَّفة من الرُعاة الأساسيّين لهذه الوثيقة، أي مع مُمثّل الفاتيكان ومُمثّل الأزهر الشريف.
تكوّنت هذه اللَّجنةُ من أعضاء، يمثّلون مُختلف الأديان والأعراق، وتمّ تعيين أمينِها العام محمد عبد السَّلام، المُستشار والقاضي في مجلس الدَّولة المصريّة المُخوّل التواصُل مع المؤسّسات الدوليّة، والتحفيز على إطلاق المُبادرات العالميّة، وتنظيم عُقود الشَّراكة، لتحقيق بُنود هذه الوثيقة ونشرِها.
3-تأسَّس المجلِس العالمي للتسامُح والسَّلام في أبو ظبي الذي يتّخِذ هذه الوثيقةَ كمنهجٍ ودُستور عالمي للإنسانيّة، يرأسُه الآن معالي أحمد محمد الجروان الذي يَعتبر أن هذه الوثيقة رسّخت العديد من المبادئ العالميّة الأساسيّة كالعدالة وحُقوق المرأة والطِّفل، كما وضعتها في إطار التسامُح والحِوار، ورسمت خارطة الطَّريق لمُستقبلِ الإنسانيَّةِ جمعاء.
يعمل هذا المجلِس من خِلال أجهزته المُمثَّلة في البرلمان الدَّولي للتسامُح والسَّلام الذي يضمّ حوالى مئة برلمان وطني ومن خلال جمعيَّته العامَّة لتنفيذ هذه الوثيقة مع المؤسَّسات والجامِعات والاحتفاءِ باليوم العالمي للأُخوّة الإنسانيّة.
4- أُطلِقت الجائزة السنويّة الكُبرى، جائزة زايد للأُخوّة الإنسانيّة والتي تبلُغ قيمتُها مليون دولار، وهي جائزة عالميّة مُستقِلّة، تأسّست بعد توقيع الوثيقة تكريمًا للأفراد والتجمُّعات والمشاريع التي تُقدّم إسهامات جليلة في التقدّم الإنساني والتعايُش السلمي كما وفي كلّ مجالات الإبداع الأدبي والفكري.
5-أَعلن اتحاد المطارنة الكاثوليك في الولايات المُتحدة، توزيع الوثيقة، والتزام استخدامِها كمرجع في حِواراتهم وعِظاتهم. ويشمُل هذا الاتحاد أكثر من 74 مليون كاثوليكي من خلال 195 أبرشيّة.
6-أنشئَ متحف في الإمارات عن هذه الوثيقة وتاريخِها وتعاليمِها وأثرِها.
7-أُقيمت المؤتمرات واللِّقاءات الفكريّة، التي لا يُمكن تعدادُها، ومن أهمِّها المؤتمر الذي عُقد في أبو ظبي لقياس مدى انتشار الوثيقة ومدى تطبيقِها، ومنها مُلتقى الهناجِر في الأوبرا المصريّة 2022 ولقاءات، وطاولات مُستديرة، ومؤتمرات في دُول أوروبا خاصَّة في فرنسا إسبانيا وإيطاليا، وفي دول آسيويّة كإندونيسيا.
8-في المجال التعليمي والتربوي وهو من أهمّ المواقِع لتطوير ذهن ثقافي فكري روحي، ولتربية جيل جديد على هذه المفاهيم، من خلال:
- التوجُّه إلى الجامِعات
–وقد صدرت أوّلُ رسالةِ دكتوراه عن هذه الوثيقة وأثرِها على مُسلمي الروهينغا والإيغور في آسيا، مع الأستاذة ميّاده الصغير، وهو موضوع مثال عمّا يُعانيه العالم اليوم مع الانتشار الواسع للتطرّف والتهجير والإرهاب المُتخفّي برِداء الدين.
–تحفيز الباحثين، وخاصة عُلماء الدِّين ومدرّسي الأديان والفلاسِفة والمؤرِّخين واعلاميِّين، على استيحاء روحيَّةِ هذه الوثيقة ومدى إنسانيَّتِها.
وأُجريَت في جامِعات مصريّة دراسات أكاديميّة انطلاقًا من الوثيقة ومن خلال العينة، وجرى توقيع بروتوكولات تعاون تُعنى بامتداداتها العمليَّة لتحقيق مفاهيم الأخوّة الإنسانيّة (مؤسّسة فاهم).
- التوجُّه إلى المدارِس
لا بُدّ من أن نُسجّل بكل فخر وتقدير تحوّلًا في المناهج المدرسيّة الإماراتيّة، في تدريس وثيقة الأُخوّة ، وخاصة في إدخال صُفوف منهجيّة للتعريف بها والتدريب على مفاهيمها من خلال توافُقها مع عُمر التلاميذ وتناغُمها مع حياتهم في التعلُّم، والمُنافسة، واكتساب مهارة التحليل والتعرّف إلى قضايا العالم المُعاصِر، وإلى أهميّة الحوار الحضاري وتقدير قيم الأخوّة الإنسانيّة، كما وبالتحديد في انسياب مفاهيمِها إلى موادِ التعليم الأُخرى (التربية الوطنيّة والمواطنيَّة، التعليم الديني، علم الاجتماع، وأحداث التاريخ وتحوُّل الجغرافيا واستيعاب العُلوم) في كلّ مراحِل التعلُّم. وهذا المشروع قد يكون مثالًا لنا اليوم في لبنان، في ورشة تجديد المناهِج والبرامج التعليميّة في المركز التربوي.
9-التشجيع على إصدار الكُتب والدِّراسات المُتعدّدة الاختصاصات، وقد اعتُمد المركز الغريغوري للدِّراسات بين الأديان في الجامعة الغريغوريّة في روما والمعهد البابوي للدراسات الإسلاميّة المسيحيّة وشبكة pluriel في الجامِعة الكاثوليكيّة في ليون ونذكُر من أوائل الكُتب التي صدرت، كتاب لوران بازانيز، مدير مركز دِراسات ما بين الأديان في الجامعة البابويّة الغريغوريّة في روما، وهو مُستشار في لَجنة الحوار مع المُسلمين، يحمل دكتوراه عن علاقة الإيمان بالعقل عند ابن تيميَّة.
***
نحن في لبنان: في موقع نموذجي مثالي للتنوّع ولاختباره على أرض الواقِع. ولم تبخُل علينا الأحداث بالصُّعوبات والتحديَّات وامتحان قُدراتنا على تحمُّل آثار العُنف والدَّمار والتفرِقة. لذا بإمكاننا رصد الأثر المُؤلِم على نموّ وتطوّر الأخوّة الإنسانيّة ليس فقط بين المؤمنين بل بين البشر جميعًا.
أترك لزميلي د. انطوان مسرّه في الجلسة التالية التوسُّع في ذكر اللقاءات، والمُبادرات، والمشاريع الوطنيّة والمحليّة،
وكنت كلما اطلعت على النشاطات العالميّة، أتيقّن أننا لا نزال في لبنان في بدايات ورشة العمل وبأن علينا الكثير لنشر هذه الوثيقة، تعليمًا تدريبًا تحقّقًا انطلاقًا من أن هذه الوثيقة ليست إرشادًا ولا عظةً ولا حوارَ أديان بل هي بوصلةٌ للتقارُب بين الشُّعوب والأديان ودعوة للحدب على كلّ ضعيف ولإدانة العُنف باسم الدين.
لذا علينا الخثروج من تقليديّة اللِّقاءات، والحِوار، والتعايُش، لِرَصدِ آفاقٍ إنسانيّةٍ جديدة والتعبير عنها بتعابير المُستقبل النابِض المُتسارع، في مُخاطبة الأجيال المُقبلة.
***
إن هوس إرادة العنف يقتل في دقيقة بقذيفة، ولكن يحتاج نموّ الأفكار الإنسانيَّة السامية وتكوّن القناعات إلى تُربة، ووقت، وفُصول، وعِناية، ورؤية، وأمل.
نحن الآن في كلّ الشرق، في لبنان والعراق وسوريا وفلسطين نسير على سقف صفيح ساخِن، وكأننا نؤجّلُ حرائقَ العُنف، ونعدُّ ضحايانا، ونأسف لخرابنا أمام قساوةِ العالم، ومصالِحِ الدُّول، وبلادةِ الضَّمائر.
نرفعُ الدُّعاء ونؤكِّدُ على الإيمان بإنسانيّةٍ لا بُدَّ من عودتِها إلى رُشدها، وبأُخوّة إنسانيّة كامِنة لا بُدَّ من إيقاظِها، ونُعيدُ قراءة هذه الوثيقة كمن يُصلّي بسُبحَةِ رجاء وكمن يؤمن بأملٍ لا يخبو.
توصيات المؤتمر
1- إن وثيقة الأخوة الإنسانية بمضامينها تشكل رافعة إنسانية وروحية في آن، يحتاجها عالمنا لتخطي الكثير من التحديات والصعوبات التي تعيق السلام بين الدول والشعوب.
2-أن لجنة الحوار الوطني في بلاد جبيل تعتبر هذه الوثيقة مرشدًا أساسيًا لأي نشاط ستقوم به، تعزيزًا للإخوة الإنسانية، لذا تناشد المعنيين بقضايا السلام والإنسانية في بلادنا استلهام هذه الوثيقة ليستعيد لبنان دوره في هذا المحيط نموذجًا للعيش معًا وسطالحروب والعنف وعدم التسامح.
3- إن اللجنة ستعمل مع كل المؤمنين وأصحاب الإرادة الطيبة على نشر مبادئ هذه الوثيقة وتعزيز أسس تجربتنا اللبنانية لما لعالمنا من حاجة لمختبر حيٍّ لقدرة البشر على العيش معًا رغم التحديات.
4-إن اللجنة تتمسك بنموذجية جبيل بما فيها من خبرات وشهادات تغلّب روح الإلفة والتواصل، وقد أظهرت ذلك في أصعب اللحظات التي عاشها لبنان، وخصوصًا إبان الحرب المشؤومة التي عصفت في لبنان سنة 1975.
5-إن اللجنة ستعمل انطلاقًا من هذا المؤتمر على توسيع مدار الاهتمام بهذه الذاكرة المضيئة، لإلقاء الضوء في نشاطات لاحقة على خبرات أخرى عاشها اللبنانيون خلال المحن كانت بمثابة خميرة للسلام الذي كانوا يتوقون إليه.
6-إن اللجنة مع بداية عهد رئاسي وحكومي جديد تعلن عن اقتناعها بأن لبنان الغد الذي يطمح إليه اللبنانيون يحتاج قبل كل شيء الإخلاص لإنسانه، وإخلاص إنسانه له، وهذا يتطلب مساهمة الجميع من كل المشارب والمعتقدات والتوجهات، لأن لبنان إما أن نبنيه معًا أو لن يبنى”.