رِيشَةٌ مِنكَ!  

Views: 60

 مُورِيس وَدِيع النَجَّار

 

(أُلقِيَت في نَدوَةٍ عُقِدَت في طَرابُلُسَ حَولَ كِتابِ الأَدِيبِ مُصطَفَى الحُلوَة (بُوهِيمِيَّة… حِينَ الارتِقاءُ بِالكِتابَةِ الإِبداعِيَّةِ دَرَجاتٍ عُلًى)، عن دِيوانِ «البِوهِيمِيَّة» لِلشَّاعِرَةِ والأَدِيبَةِ مِيراي شحادة حَدَّاد بِتارِيخِ 26/4/2025)

 

في ثَنايا السِّفْرِ، في الآيِ الصِّباحْ،        مِن يَراعٍ وَشْيُهُ نَوْرُ البِطاحْ

سَطَّرَت «مِيرايُ»، فَالأَحرُفُ في        مِهرَجانِ الشَّوقِ بِشْرٌ وارتِياحْ

بَرَقَ البَدْعُ على الرُّقعَةِ في        فِتنَةِ الحُسْنِ، وإِشراقِ الصَّباحْ

فَمُرُوجٌ في نَسِيجٍ مُؤْنِقٍ،        وتَلاوِينُ على زُهْرِ الأَقاحْ

مُصطَفَى… راوَدتَ «بُوهِيمِيَّةً»(1)،         فَوِصالٌ في سَراحٍ ورَواحْ(2)

لَم تُقَصِّرْ أَنتَ في تَشرِيحِها،        فَجَلَوتَ السِّحْرَ، ما غابَ ولاحْ

هي مِن دِيباجَةِ الأَنسامِ في         سَفْحِ شَربِينٍ، وفي صُبْحٍ لَياحْ

وبَيانٌ مِنكَ… لا أَدرِي إِذا         كانَ مِنْ طِيْبٍ أَمِ السَّلسالُ ساحْ

أَرَأَيتَ الصُّوَرَ الغُرَّ على         دافِئِ الوِجدانِ في البَثِّ الصُّراحْ؟!

أَفَما شَنَّفَكَ الجَرْسُ، فَفِي         وَهَداتِ الزَّهْرِ يَنسابُ الصُّداحْ؟!

أَفَما أَرضاكَ إِنشاءٌ بِهِ         سَكَراتٌ مِن جَوَى الصَّدْرِ، وراحْ

وخَيالٌ رِقَّةٌ في قُوَّةٍ،         قامَةٌ رُمْحٌ، وتَلوِيحُ وِشاحْ

وتَعابِيرُ على رَونَقِها         دَلُّ إِغواءٍ على غِيْدٍ مِلاحْ؟!

رِيشَةٌ مِنكَ على رِيشَتِها،         وكَفانا التَّوْقُ في القَوْلِ المُباحْ!

 

أَيُّها الحَفْلُ الكَرِيم

في هذهِ الأَيَّامِ الَّتِي تَستَعِرُ فِيها حُمَّى الكِتابَةِ عِندَ الكَثِيرِينَ، يَلهَثُونَ إِلى تَوقِيعِ خَربَشاتِهِم بِــ «الشَّاعِرِ» أَو «الأَدِيبِ»، نَقرَأُ الجَمَّ الطَّمَّ ولا نَقَعُ إِلَّا على الضَّحضاحِ مِنَ الأَدَبِ الحَيِّ النَّابِض.

والأَجواءُ مُلَبَّدَةٌ هكذا، يَبدُو لَنا نَجْمٌ ساطِعٌ، يَكشِفُ نُورُهُ الأُفُقَ تارِكًا على أَذيالِهِ البَهاءَ في الجُلَّنار…

هو مُصطَفَى الحُلوَة، أَمِينُ عامِّ «الاتِّحادِ الفَلسَفِيِّ العَرَبِيِّ»، مَوسُوعِيُّ الثَّقافَةِ، يَأتِي النَّصَّ المُعالَجَ بِبَصِيرَةٍ ثاقِبَةٍ، وبِعَينٍ مُحِبَّة. وَكْدُهُ كَشْفُ الجَمالِ إِمَّا أَخفَتهُ سُطُورٌ، أَو استَغلَقَ على الأَفهام. وهو عَلَمٌ في مَحافِلِنا الثَّقافِيَّةِ، ومَنارَةٌ جازَ إِشعاعُها حُدُودَنا، فَكانَ سَفِيرَنا إِلى عِلْيِ المُلتَقَياتِ الفِكرِيَّةِ على انبِساطِ الضَّاد.

لا نُغالِي إِذا قُلنا إِنَّ الرِّبِيعَ الثَّقافِيَّ الطَّرابُلُسِيَّ لا يُذكَرُ إِلَّا وهو أَحَدُ مُرُوجِهِ الزُّهْرِ، ونَبْضٌ خَفَّاقٌ في شَرايِينِهِ، وبَرِيقٌ في إِطلالَتِهِ لا يَخْبُو. ناشِطٌ في كُلِّ مَجالاتِ الثَّقافَةِ، فَهِي، مَعَهُ، في حَرَكَةٍ دائِمَةٍ لا تَعرِفُ الرُّكُودَ، إِذ لا يَترُكُ حَقلًا إِبداعِيًّا إِلَّا ومِحراثُهُ فِيهِ، وبُذُورُهُ إِلى طَلِيعَةِ التَّفَتُّح.

ألفَلسَفَةُ، بِما في باطِنِها مِن غُمُوضٍ، وبِما في لَبُوسِها مِن عُبُوسٍ، يُلَطِّفُها أَدِيبُنا المُصطَفَى بِبَيانِهِ الرَّشِيقِ، وأَدَبِهِ الرَّاقِي، وكَلِماتِهِ الَّتِي تَنضَحُ بِالجَمالِ، والرِّقَّةِ، وسَلاسَةِ الرَّصْفِ، وصِحَّةِ اللُّغَةِ، وبَراعَةِ الاختِيار. وَهَل عَجَبٌ وَ«الفَلسَفَةُ لا مَهرَبَ لَها مِنَ الجَمَالِيّ» كَما يَقُولُ الفَيلَسُوفُ والنَّاقِدُ الفَرَنسِيُّ جاك درِّيدا؟!

وهو، إِلى امتِدادِهِ الفَلسَفِيِّ الوَسِيعِ، أَدِيبٌ مَوسُوعِيُّ الثَّقافَةِ، خَلَّاقٌ، يَحمِلُ هُمُومَ الوَطَنِ، يُدرِكُ عِلَلَهُ، ولا تَخْفَى عَلَيهِ سُبُلُ العِلاج.

بَينَ يَدَيَّ، اليَومَ، كِتابُهُ النَّقدِيُّ المَوسُومُ بِــ (بُوهِيمِيَّة… حِينَ الارتِقاءُ بِالكِتابَةِ الإِبداعِيَّةِ دَرَجاتٍ عُلًى)، عن دِيوانِ «البِوهِيمِيَّة» لِلشَّاعِرَةِ والأَدِيبَةِ المُحَلِّقَةِ مِيراي شحادة حَدَّاد. لقد نَقَّبَ فِيهِ بِحِرصِ مَن يُفَتِّشُ في مَوقِعٍ أَثَرِيٍّ، يَمسَحُ التُّرابَ بِفُرشاتِهِ الرَّهِيفَةِ، وبِالأَصابِعِ، أَحيانًا، لِعِلمِهِ أَهَمِّيَّةَ ما يُخفِي العَفَرُ مِن كُنُوز.

تَناوَلَ الدِّيوانَ، فَجالَ في رِحابِهِ، وتَوَغَّلَ في أَغراضِ كاتِبَتِهِ، وظَهَّرَ ما أَخفَتهُ السُّطُورُ في طَيَّاتِها، وأَشارَ بِالبَنانِ المُحِبَّةِ إِلى مَكامِنِ الجَمالِ، فَإِذا الغَجَرِيَّةُ، بَينَ يَدَيهِ اثنَتانِ حاسِرَتانِ لِلقُرَّاءِ: واحِدَةٌ تَرفُلُ بِالمُزَركَشِ مِنَ الأَلوانِ، وتَتَغاوَى بِالأَهدابِ المُسبَلَةِ، وبَرِيقِ الحِنَّاءِ، ووَسوَسَةِ الخَلاخِيل، وأُخرَى تَكمُنُ في العُمْقِ، وراءَ الجَمالِ السَّاطِعِ، تَتَزَيَّا بِالحِكمَةِ، وتَغْنَى بِالرُّؤَى البَعِيدَةِ، والانزِياحاتِ الذَّكِيَّةِ، وتَرفِدُ النَّصَّ بِالنُّسْغِ الَّذِي يُكسِبُهُ الدَّيمُومَةَ الطّوِيلَة…

وصاحِبُنا لا يَدأَبُ على تَزوِيقِ بَلاغِهِ تَعوِيضًا عن غَيضٍ في الفِكْرِ، ورَكاكَةٍ في المَضمُونِ، فَالمَتْنُ، في صَحِيفَتِهِ، مَبنِيٌّ على العَقْلِ والمَنطِق. على أَنَّهُ جَمَعَ الدِّيباجَتَينِ بِحُنكَةِ العَلِيمِ البَصِيرِ، ومَقدِرَةِ اللُّغَوِيِّ الواثِقِ مِن عُدَّتِهِ وذائِقَتِه…

وأَمَّا المَرأَةُ الَّتِي تَناوَلَ سِفْرَها الأَنِيقَ فهي مِمَّن نَلقاهُنَّ النَّدَرَى، وتُذَكِّرُنا، بِحَمِيَّتِها الأَدَبِيَّةِ، بِالكَبِيرَةِ مَيّ زِيادَة، على رُجْحانٍ في المَدَى الجُغرافِيِّ الَّذِي يَنداحُ نَشاطُها عَلَيه.

هي شاعِرَةٌ تَحُطُّ على الرُّقْعَةِ شَباتَها فَيَنبَثِقُ رَبِيعٌ مَوَّارٌ، وتَخرُجُ إِلى النُّورِ مُفَلَّذَةٌ مِن جَمالٍ لا يَشُوبُهُ تَرَهُّلٌ، ولا تُقِلُّهُ خِفَّة. وقد أَقامَت لِلقَلَمِ سُرادِقًا يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ، فَوَلَجَ اسمُها، عَزِيزًا، مَحافِلَ الأَدَبِ في طُولِ وَطَنِنا وعَرْضِه. وهي تُلبِسُ فِكرَتَها مُطرَفًا يَزِيدُها وَزْنًا، ويَرفَعُها إِلى مَغْنَى الأَدَبِ الغِنائِيِّ الغَنِيِّ بِالخَيالِ والصُّوَرِ وتَراسُلِ الإِيقاعاتِ، والحَفِيفِ اللَّطِيف. وَ «قَد استَطاعَت، بِسُلوُكهِا سَبِيلَ قَصِيدَةِ النَّثْرِ، أَن تُقَدِّمَ لَنا، عَبْرَ “بِوهِيمِيَّة”، خِطابًا شِعرِيًّا ونَثْرِيًّا مُشبَعًا بِالرُّؤَى والتَّجَلِّياتِ الحالِمَةِ المُبدِعَة» (ص 137)، كَما يَقُولُ أُدِيبُنا “المَصطفَى”.

كِتابُ صاحِبِنا يَنُمُّ عن أَكادِيمِيَّةٍ رَصِينَةٍ مُتَمَكِّنَةٍ، ومَلَكَةٍ ثاقِبَةٍ تَغُوصُ عَمِيقًا في كَشفِ القِناعِ عن مَدلُولاتِ النَّصِّ ورُؤَاهُ الدَّفيِنَةِ، وحِرْصٍ على تَنقِيَةِ العَملِ المُتَناوَلِ بِالمُنْخُلِ الدَّقِيقِ.

وقد رَأَى كاتِبُنا في دِيوانِ شاعِرَتِنا «مِساحَةً تَنبُضُ بِفِكرٍ تَأَمُّلِيٍّ خَلَّاقٍ، وذِي أَبعادٍ عَمِيقَة» (ص 67)؛ فَإِذا تَقيِيمُهُ المُحِقُّ هذا قِلادَةٌ ذَهَبٌ تَلِيقُ بِشِعرِها المُصَفَّى، المُجَنَّحِ خَيالًا، المُتَماسِكِ رَصْفًا والمُتَوازِنِ إِبصارًا. وقد دَعاها «امرَأَةَ المُستَحِيلاتِ» (ص 37)، وتَشهَدُ على ذلِكَ ساحَتُنا الأَدَبِيَّةُ الَّتِي مَلَأَها حَراكُها الخَيِّرُ، بِهِمَّةٍ قعَساءَ، وعَطاءٍ تَعجَزُ عَنهُ الجَماعاتُ المُتَكاتِفَةُ، فَما أَعاقَتها أَعباءُ عائِلَةٍ، ولا وَظِيفَةٌ ضاغِطَة.

مِن مَزِيَّاتِ الأَدِيبِ والشَّاعِرِ المُجَلِّي مَقدِرَتُهُ على تَحوِيلِ المُناسَبَةِ الخاصَّةِ إِلى حَقْلٍ يَشتَمِلُ المَلَأَ الأَوسَعَ، فَتَصِيرُ المُناسَبَةُ فائِدَةً عامَّةً، وحَمَّالَةً لِإِبداعٍ مُتَنَوِّع. وهذا ما أَشارَ إِلَيهِ أَدِيبُنا بِقَولِه: «تَبقَى مَسأَلَةٌ عامَّةٌ، هي مِنَ الثَّوابِتِ لَدَى أَدِيبَتِنا مِيراي شحادة، تَتَمَثَّلُ في بَراعَتِها التَّعبِيرِيَّةِ، عِندَما تَعبُرُ مِنَ المَشهَدِ الخارِجِيِّ إِلى أَعماقِ النَّفسِ ودَواخِلِها…» (ص 132).

                            ***

صَدِيقَنا مُصطَفَى

بَرَعتَ، تَصادِيًا بَينَ الفَلسَفَةِ والأَدَبِ، بَينَ رَصانَةِ السَّردِ وجَمالِيَّتِهِ الباهِرَةِ، فَدُوِّنَ اسمُكَ مع كِبارٍ أَنارُوا دُرُوبَنا بِإِشعاعٍ لا يَخبُو.

قَرَأناكَ فَجَلَّلَتنا المُتعَةُ، وخَبَرناكَ قَلَمًا «كَلَّلَ الرِّقاعَ بِجُودِهِ، وآثارُهُ تَقطُرُ بِالدَّسَم»، على حَدِّ قَوْلِ المَزمُورِ(3)، مَعَ تَصَرُّف.

وَلَأَنتَ مِنَ الَّذِينَ لا يَصرِفُونَ هَمَّهُم في الظَّاهِرِ، بَل يَغُوصُونَ في الكَينُونَةِ الَّتِي تَطوِي المَعنَى الأَعمَق؛ فَخَلفَ الفِعْلِ المُتَحَقِّقِ، هُناكَ دائِمًا حَقِيقَةٌ هاجِعَة.

ولا غَرْوَ، أَلَيسَكَ مِن سَدَنَةِ الفَلسَفَةِ الأَمِينِينَ الخُلَّص؟!

يَقُولُ الأَدِيبُ والنَّاقِدُ المِصرِيُّ إِدوار الخَرَّاط، في حَدِيثٍ صِحافِيٍّ لَهُ مع مُحَمَّد صَلاح العَزَب: «النَّقدُ عِندِي هو قِراءَةٌ مُعَمَّقَةٌ ودَعوَةٌ إِلى المُشارَكَةِ في تَأوِيلٍ مُحَدَّدٍ أَو مُقتَرَحٍ لِعَمَلٍ فَنِّيّ»، وهذا يَنطَبِقُ، في دِقِّهِ وجِلِّهِ، على نَقْدِ أَدِيبِنا المُصطَفَى، فَتَعانَقَت آراءُ المُبدِعَين…

هذا

وإِلَى الَّذِينَ يَخبِطُونَ في الكِتابَةِ خَبْطَ عَشواءَ، عُدَّتُهُم هَزِيلَةٌ، وغَرَضُهُم تَثبِيتُ أَسمائِهِم «المُبارَكَةِ» على جِدارِ الكِتابَةِ الإِبداعِيَّةِ، إِلَيهِم نُوَجِّهُ النَّصِيحَةَ أَنْ يَتَقَصَّوْا مَقالاتِ صاحِبِنا النَّقدِيَّةَ في مَظانِّها، لِأَنَّ فِيها الإِرشادَ العَمِيقَ المُحِبَّ، والتَّوجِيهَ اللَّطِيفَ النَّاجِعَ، وإِلَّا… فَــ «عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُها»(4)…

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1): إِشارَةٌ إِلى دِيوانِ الشَّاعِرَةِ مِيراي شحادة حَدَّاد «بُوهِيمِيَّةً»، والَّذِي تَناوَلَهُ بِالدِّراسَةِ الأَدِيبُ مُصطَفَى الحُلْوَة

(2): أَفعَلُهُ في سَراحٍ ورَواح: صَباحًا ومَساءً، في سُهُولَة

(3): «كَلَّلتَ السَّنَةَ بِجُودِكَ، وآثارُكَ تَقطُرُ بِالدَّسَم»   (المَزمُور 65: 11)

(4): ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُها﴾   (القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ مُحَمَّد، الآيَة 24)

 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *