سجلوا عندكم

في مئوبة كتاب “ملوك العرب” لأمين الريحاني

Views: 97

د. الهام کلّاب

كتبَ أمين الريحاني: “السَّيرُ في الوادي أو الغابِ يذكّرُ السَّائرَ بالخالِق العظيمِ. أمَّا السَّيرُ في شوارِع المُدنِ الكُبرى فهو يُذكِّرُ الإنسانَ بالإنسانِ”.

وكان الريحاني مشَّاءً متأملًا في وادي الفريكة المَهيب، ومشاءً يقِظًا مُتحفزًا شَغوفًا في عواصمِ العالَمِ  وشوارِعِه وصحاريه.

كان يُردِّدُ:

خُذ عُكَّازَك، سِر رويدًا، تريَّث حيثُ يدعوكَ قلبُك إلى التريُّث، أدِر ظهرَك إلى المُرشدينَ، كلُّ إنسان مُرشِدُ نفسِه وتُرجمانُها.

وقالَ كلمتَه ومشى…

كان كلُّ ما على هذه الأرضِ يجتذبُه ويُغذِّي شغفَه ويُحفِّزُ توقَه إلى المعرفةِ والاكتشافِ والسَّعي إلى لقاءِ الإنسانِ بالإنسانِ في تخطٍّ لصُعوبةِ اجتيازِ الحُدودِ، وبدائيَّةِ وسائلِ التنقُّلِ واعتلالِ الصِّحةِ وسُلطةِ الوقتِ وتسارُعِ العُمر.

وكان أمين الريحاني مُتعدِّدَ المواهبِ غزيرَ الإنتاجِ، تُسابقُ نُصوصُه سنواتِ عُمره . كتب الكثيرَ وكُتب عنه الكثيرُ، وتُرجمت كتبُه إلى لُغاتِ العالَم ووُضعت عنه آلافُ الدِّراسات والمقالات في حوالى أربعٍ وأربعين دولة، ولا يزال حتى اليوم حقلًا خصبًا مُلهمًا يُثيرُ الإعجابَ والتقديرَ والجدلَ والتساؤلَ، ويُعتبر أوَّلَ رحَّالةٍ عربي في بِداياتِ القرنِ العشرين قام وفي مسارِ رحلةٍ مُتعدِّدةِ الأقطارِ، واحدةِ القصدِ، باجتياز مُعظم بُلدانِ العربِ، فتعرَّف إلى أرضِها ومناخِها وطبيعتِها وناسِها واجتمع بمُلوكِها وحُكَّامِها وأرسى معهم علاقاتٍ وصداقةً، وسعى إلى وَحدتها، وأصدَر كُتبَه عنها بالعربيَّة والإنكليزيَّة بفَرادةِ وغزارةِ قاصدًا تعريفَ الغرب بالعَرب وتعريفَ العَرب بالغَرب.

اليوم نتحلَّقُ حولَ مئويَّةِ كِتابِه “مُلوك العرب”، وأنا أُسائل نفسي ما الذي يُمكن أن أقدِّمَه، بعد الكلمةِ المُنبعثةِ من الجُذور للدكتور أمين، الأمين أيضًا على الاسم، في هذه العُجالةِ.

 

سأتابعُ – برهبةٍ وتقديرٍ وإعجاب-  وبلمحةٍ سريعةٍ خُطى أمين الريحاني في هذه الرّحلةِ التاريخيَّةِ إلى دُنيا العرب، في مطلَعِ عشرينيَّات القرنِ الماضي الذي عرفَت فيه بلادُ العربِ زوالَ السُّلطةِ العثمانيَّةِ وبروزَ النُّفوذِ الأوروبي، وخاصةً النُّفوذِ البريطاني، والصحارى كانت ولا تزال صحارى.

هذه الرّحلةُ المُزيَّنةُ برُسومٍ بيدِ الريحاني الفنان، وبخرائطَ، وفهرسِ أعلام، نسجَت أحداثَها في تميُّزِها عن استغرابٍ، أو استشراقٍ، كان سائدًا في تلك المرحلةِ، بين إغراءِ الشَّرق ونوايا الغرب.

ينجدلُ في هذا الكتابِ، بسلاسةٍ، المجالُ الجُغرافيُ الفسيحُ مع التوثيقِ التاريخي، مع اللقاءِ الإنساني الرَّحبِ، مع المدى السياسي وعَلاقاتِ السُّلطةِ، مع التحليلِ الاجتماعي، مع دقَّةِ المؤرخ، وسلاسةِ الأديبِ، والواقعيَّةِ المُطعَّمةِ بتفاصيلِ الحياةِ والصِّدقِ الإنساني وحسِّ الفُكاهةِ الذي عرُف به الريحاني.

بدأ الريحاني رحلتَه سنه ١٩٢٢ من جدَّه على مرحلتين الأولى إلى الحجاز واليمن وعسير ولحج ونواحٍ أُخرى، والثانية من الكويت إلى عربستان والبحرين والعراق.

 

 لا يخفي الريحاني عنا مصاعبَ هذا التَّرحالِ، حيث استقبله بإجلالٍ وحُسنِ وفادةٍ، العديدُ من الحُكَّام والشخصيَّات، من أبرزهم الشريف حسين في الحجاز، والإمام يحيى في اليمن، والملك عبد العزيز آل سعود الذي كما يقول “تجسدت فيه فضائلُ العربِ إلى حدٍّ يندُرُ في غير الملوكِ”. وكان يوجّهُ الدَّعواتِ شخصيًّا إلى الريحاني.

وتجلَّت هذه الصداقةُ بعد رُجوعِه إلى الفريكة في زيارات ولي عهد سُلطان لحج وأمراءِ البحرين ووالي البصرة وسليل الخلفاء العباسيين، وغيرهم.

كان يُشغلُه في هذه اللِّقاءات التنافسُ بين الأُمراءِ والمُلوكِ والذي تقابلُه النوايا الأوروبيَّة وخاصةً الإنكليزيَّة في هذه المنطقةِ.

كان المرورُ من بلدٍ إلى  آخر يخضعُ لسياسةِ الانتدابِ البريطاني حتى عندما زارَ الهند بقَصدِ زيارة غاندي في سِجنه، فلم تسمح له السُّلطةُ البريطانيَّةُ بذلك.  

ترافَق هذا الهمُّ السياسي بتوصيفٍ اجتماعي للعاداتِ والتقاليدِ وطبائعِ الشُّعوب، وظواهرِ الحضارة، وعداواتِ البداوةِ والعصبياتِ، والمِلل والنحل، وانتشارِ التجمُّعاتِ الفقيرة وخاصةً فقرِ النِّساءِ وتواجُدهن كعامِلات أو خادِمات.

ويندُر  ذكرُ النِّساء في هذا الكتابِ لتواضُعِ أوضاعِهن في تلك المرحلةِ التاريخيَّةِ التي لم يكُن فيها للنِّساء من دورٍ خارجِ البيت وسُترة الخيمة. لكنه يذکُر نساءً في عُبال بجمالهن الآسر والحُسن الذي يتجاوزُ القِوامَ والوجهَ إلى الذَّوقِ والخُلق وبشاشةِ الاستقبال. وخصَّص فصلًا لنساء تهامه فيقول: “لم أرَ في بلاد اليمن، بل في البلاد العربيَّة كُلِّها، عدا العراق، من النِّساء، بقدر ما كان في ساحةِ باجل ساعةَ دُخولِنا إليها، وكلُهنَّ سافرات، حسانُ الوجوهِ والقُدودِ يُشبهن الإنكليزيَّات قِوامًا وخفةً ومشيًا، ولكن لبسَهن قد يُنسَبُ لولا السَّذاجةِ والفَقر إلى التهتُّك”. وكانت النساءُ  تلبَس البرانيطَ (الشبقة ) كالرِّجالِ وبأيديهن السِّلال للبيع والشِّراء.

       كلُّهن نساءٌ، بدون اسم، ولكن كان هناك امرأةٌ واحدةٌ ذات اسم شهير جرترود بل الإنكليزيةُ الرحَّالةُ والكاتِبةُ والضابطةُ البريطانيَّةُ التي أسهمت في تشكيلِ دولةِ العراق، والتي حاولت الحؤولَ دون وصولِ الريحاني إلى نَجْد ولم تفلَح.

 

هذا كتابٌ رحالةٌ ولكنه مع الريحاني كتابٌ تاريخيٌ،  سياسيٌ اجتماعيٌ، أدبيٌ، وكتابُ إصلاحٍ وتوقٍ مستقبلي في بلاد العرب.

تاريخيًّا، هو وثيقةٌ قيِّمةٌ وشهادةٌ شخصيَّةٌ على مرحلةِ تحوُّلٍ في الجزيرة العربيَّة والتي تلاها تشكُّل الدول الجديدة بحدودِها المعروفةِ وتاريخِها المتوزِّع.

سياسيًّا واجتماعيًّا هو حصيلةُ فِكرٍ سیاسيّ حضاريّ كان يسعى إلى فهمِ المصاعبِ، والمُساعدةِ على إيجادِ الحُلولِ والسَّعي إلى توحيدِ العربِ، وتقارُبِهم وتَّعاطُفِهم وصِياغةِ عُروبةٍ حضاريَّةٍ..

تربويًّا، كان يرمي إلى انشاءِ المدارسِ الوطنيَّةِ وإبعادِ الدِّين عن المجلِس والحكومةِ والدستورِ ونشرِ مبادئِ التسامُحِ  والحوارِ والحريَّةِ وحمايةِ التنوُّع والأقليَّات. كان يقول في دعوتِه إلى التساهُل الديني وإدانة شقاء العصبيَّات: ألا يستطيعُ الإنسانُ أن يُحبَّ فئةً من الناسِ دون أن يُبغِضَ سِواها… ألا يستطيعُ أن يرفأ ثوبَه دون أن يمزّقَ ثوبَ جارِه؟

ولقد صنَّفه المفكرُ المصرى د. زكي نجيب محمود مرجعًا عريقًا في مسار المُفكِّرين المتنورين في العالم، سواء في أدبِه أو في أسفارهِ، إذ اعتبره امتدادًا لما كان يدعو إليه جون لوك في إنكلترا في القرن السابع عشر في رسالته عن التسامح، وما كانه جان جاك روسو في القرن الثامن عشر في دعوته إلى الوِجدان الصادق، وما كانه الفيلسوف إمرسون Emerson في القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة في اعتبار الكونِ وحدةً عضويَّةً واحدةً، وما كانه هنري  ثورو Thoreau  Henry  تلميذ إمرسون الذي لاذَ بالطبيعةِ ومعانيها كما لاذ الريحاني بوادي الفريكة.

كان أمين الريحاني للأُمَّةِ العربيَّة ما كان هؤلاء جميعًا بمقاديرَ تتفاوتُ أبعادًا وأعماقًا… فكان لنا عدةَ رُسلٍ في رسولٍ واحد.

***

* ألقيت في ندوة حول  مئوبة كتاب “ملوك العرب” لأمين الريحاني (1876 – (1940)، ضمن الدورة السادسة والستين لمعرض بيروت العربي الدولي للكتاب 2025، الأحد 25 أيار، سي سايد آرينا – الواجهة البحرية.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *