“بائع الحكايات”

Views: 17
البولّندي ستانيسواف ستراسبورغر
الكاتب البولّندي ستانيسواف ستراسبورغر

في زمن يبيع النّاس ضمائرهم وأسماءهم وأطفالهم وهويّتهم ووطنهم، في زمن بات من الصّعب أن تروي قصّة لا تخالطها دماء، ولا تشرُّد، ولا صور أناس يلتحفون السّماء، في زمن تمتزج فيه روائح الموت بالمطر، تروي” بائع الحكايات”-للكاتب البولّندي ستانيسواف ستراسبورغر الصّادرة ترجمتها العربيّة عن دار الآداب 2014-قصّة الشّاب ميريك الّذي قدم إلى الصّحراء للعمل في مؤسّسة “غاز سيك”.

الوثائقيّة والنّظرة إلى الشّرق

د. نازك بدير
د. نازك بدير

يروي الكاتب مشاهداته في البلاد التي زارها وعمل فيها. تتحوّل هذه الرّواية، في أكثر من موضع، إلى ما يشبه الوثيقة الحضاريّة الّتي تؤرّخ عادات الشّعب العربي وتقاليده وتراثه. يتابع ميريك، الذي يتحوّل اسمه إلى “يان”، تفاصيلَ الحياة في دمشق وأزقّتها وحاراتها ومطاعمها وآثارها. ويبرز وجوهًا من حياة السّوريّين الاجتماعيّة وعنايتهم بالولائم. (Ultram) يقترب بائع الحكايات من الرّحّالة وهو يصف الأسواق التّاريخيّة والحمّامات والمساجد والكنائس والقلاع الّتي تحصّن فيها الصّليبيّون بعد سقوط القدس في أيدي المسلمين. ويتوقّف عند اهتمام الدّمشقيّين بفنّ العمارة، وبمحافظتهم على التّراث، لكنّه يأخذ عليهم الفوضى في بناء الجامعة المترامية الأطراف، فبدت “بنية جيولوجيّة لأرض صحراويّة اقتُطعَت وتنتظر العودة إلى مكانها في أقرب مناسبة.”(ص.145)

يحفر المستشرق البولّندي في الذّاكرة والتّاريخ، فيعود إلى بداية الصّراع الإنساني بينقايين وهابيل، مرورًا بالبتراء ومعابدها المنحوتةفي الصّخر، والمشاكي الشّاهدة على آلهة عُبِدَتْ. ثمّ يستحضر تاريخ حلب، وهجوم المغول بعد إحراق بغداد.

ينتقد ستراسبورغر التّناقض في التّربية العربيّة والسّلوك والإيديولوجيا؛ في منزل سليم صورة للمسجد الحرام، وأمامه في التّلفزيون مغنيّة شبه عارية (ص.49) أمّا المرأة الشّرقيّة في هذه الرّواية فهي معطّلة الفكر، محصورة بالعمليّة الجنسيّة، تقدّم نفسها وعاء فارغًا. صورتها الانهزاميّة المستسلمة فيها احتقارٌ لإنسانيّتها، وتجريدٌ من قدراتها وطاقاتها. فالنّساء المشرقيّات، في نظره، يكتفينَ بتقديم خرمهنّ للرّجل مساءً، ولا يشغلن بالهن في أيّ شيء.”(ص.15) تظهر هذه النّظرة الدونيّة إلى المرأة على لسان عدد من الشّخصيّات؛ إذ يحمد هارون ربّه لأنّه جعل جسد المرأة مصدرًا لأعظم الّلذّات.

يظهر من خلال توالي الأحداث الاختزالَ والتّنميط، وتكريس صورة ساذجة عن المرأة العربيّة وعن الرّجل العربي، الذي لا تخرج دائرة اهتماماته عن العلاقة الجنسية… قدّم ستراسبورغر صورة مضخّمة عن الشّباب العرب الذين لا يرون في الشاشة الزّرقاء وفي العالم الافتراضي إلّا مكانًا للتّنفيس عن رغباتهم المكبوتة. وفي هذا الرّأي اجتزاء للحقيقة، ونوع من تجاهل الطّاقات الإبداعيّة للنساء والرجال على حدّ سواء.

مشهديّة السّرد

غلاف "بائع الحكايات"
غلاف “بائع الحكايات”

وعلى الرّغم من تعدّد الرّواة في بائع الحكايات (يان، سليم، مليحة، هارون، جميلة، …) إلّا أنّ صوت الرّاوي الأساسي “يان” كان المحرّك، والرّواة الآخرون صدى له. تسرد كلّ شخصيّة حدثًا ليس بمنظور شخصيّ، إنّما من زاوية نظر بطل الرّواية” يان” ووفقًا للمنظور الإيديولوجي الّذي يلائمه؛ ينطلق يان (الغربي)، وكذلك وليد أو هارون من الموقع نفسه في إطلاق الأحكام. فالنّقد لا يأتي الفلسطيني أو السّوداني من الفيزيائي الأجنبي، بل يتحامل العرب على أبناء جلدتهم،فيمارسون عنصريّة ضدّ الفلسطينيين،وضدّ السّوريّين.

لجأ ستراسبورغر إلى تضمين روايته أبياتًا من قصيدة للوليد بن يزيد، وآيات قرآنيّة، كما أخذ عن “الأغاني” وعن مقامات الهمذاني، وابن قيّم، وابن الجوزيّه، وغيرهم من المفكرّين والأدباء العرب والأجانب ليصوغ أربعة وثلاثين حوارًا، جاء كلّ منها تحت عنوان خاصّ، كلّ حوار عبارة عن مشهد:فجعل الرواية لوحة من الفسيفساء تتداخل فيما بينها وتتفاعل، مساهمة في إثراء طاقة النّصّ فأخذه من إطار السّرد باتّجاه الكتابة المشهديّة.

لقد اختار من التّراث الأدبي ما يشكّل خلاصة تجارب أجيال من الشّعراء والأدباء والحكماء، فانطلق من التّراث لينسج حكايات للحاضر. وتبقى علاقة الرواية بالتّراث من الموضوعات الشّائكة الّتي تعترض الرّواية العربيّة والمترجمة على حدّ سواء، ومجالًا خصبًا لاستلال الفضاءات السّرديّة.

مزج الكاتب الجانب الرّوائي بما يشبه البناء المسرحي، فتضمنّت الرّواية مشاهد مسرحيّة، منها مشهد السّاحر علي أكبر الّذي يؤدّي عرضًا بالمسامير. يصف الرّاوي شكله، وحركاته،وردّة فعل الأطفال والكبار، مدخِلَا التّقنيات المسرحيّة من تمثيل وصوت وحركة وجمل قصيرة انفعاليّة ضمن المشهد.كما استطاع ستراسبورغر أن يبلور نصّه الرّوائي في هيئة سمعيّة بصريّة حركيّة، ممّا خلق نوعًا من الهارمونيا جعلت السّرد يقترب من الخطاب المسرحي.

أخيرًا، يمكن القول إّن الصّورة والحركة لازمتا الّلغة في” بائع الحكايات”، فتحوّل بذلك النّصّ المكتوب إلى بؤرة من الدّلالات المفتوحة، وكأنّه حوّل القوليّ إلى مرئيّ، والصّيغ اللغويّة إلى علامات حسيّة بصريّة، فلم تكن المفردات وحدها حاملة الدّلالة في تكوين المشهد، إنّماالحضور الطاغي للأصوات، وللحواس جميعها.

————————————–

*بالاشتراك مع موقع THAQAFIAT

www.claudeabouchacra.com

 

 

 

 

 

Comments: 1

Your email address will not be published. Required fields are marked with *

  1. اتمنى ان افهم مدى تعلق الغرب بهذه النظرة الدونية للمراة الشرقية وكان الشرق لازال يعيش في عصر الجواري والاماء ويتجاهلون نسبة النساء التي تشغل كافة الوظائف وفي مختلف مفاصل الدولة حتى في منظمات الاغاثة في زمن الحرب …..والاكثر من ذلك هو تعزيز هذه النظرة بتكريس تلك الكتب والمقالات من قبل دور النشر وكان المفروض بنا ان نجعل نسائنا يخرجن عاريات ليرضى عنا الغرب والمثقفون نون