قراءة في كتاب

Views: 433
jihane-2
د. جيهان الفغالي

“حبًّا كفاف يوم” لـ يوسف عيد

د. جيهان الفغالي


“حبًّا كفاف يوم”! بأيّ كلامٍ سأستهلّ قراءتي هذه؟ أبكلام حبٍّ مستحيلٍ أرادَ الدكتور عيد أن يجعله ممكنًا؟ أم بحنينٍ إلى ماضٍ غابرٍ ما زال راسخًا في فؤاده، جسّده بوضوح في هذا النتاج؟ إنّه الحنين! نعم. يتجلّى تدريجيًّا في بعض القصائد والنصوص، وكأنّ الكاتب يسارع بحثًا عن ماضيه: “بيتي الأوّلُ حقلُ لوزٍ، سقفُه ترابٌ، حيطانُه/ غشيمه، نعيش فيه، أبٌ وأمُّ وأختٌ وجَدُّ…” (“كان بيتي”، ص33). ويُكمل الحنينُ مسارَه، فيلتقي بالبركة والصّاج واللّوز والسّكّر، وجرّة من فخّار، والإبريق والقنديل، والباب الخشبي، ويُنهي بــ “سلام على الذاكرة الوفيّة” التي لا تجرؤ على النسيان.
نقع في هذا الديوان على الحقل المعجمي للطبيعة، وأبرز الكلمات المفاتيح التي تمثّله: الكرْم- الزّروع (“أنا ربّ الكرم”، ص77)، نسيم الورود (“تجيئين كالظلّ”، ص87)، الحقل- الطيور- الفراشة- الأزهار- الأرض الوفيّة- البرّيّة (“موطن روحي”، ص141)، البساتين- حقل لوز(“كالتّائه”، ص145). فكأنّ الطبيعة هي الهواء الذي يُنعش الكلمات، وينثر رحيق الورود في أرجاء الكتاب، تمامًا مثلما تناثرت في قصيدة “فجر” للروائيّة الفرنسيّة  جورج ساند :”الطبيعة هي ما نرى/ ما نريد، ما نحبّ/  ما نعلم،  ما نؤمن به/ وما نشعر به في باطننا.”
محور الكتاب
إنّ محور الكتاب هو “الحبّ”، يتّضح ذلك من العنوان، وصفحات الكتاب كافّةً. أهو حبٌّ عابرٌ موقّت، أم هو عشقٌ خالدٌ أبديّ؟ في قصيدة “المحبّ الشهيد”، ناجى الدكتور عيد لبيد بن أبي ربيعة، أحد الشعراء الجاهليين الذين اشتهروا بالعشق، فتجلّى الحبّ العميق الذي لا يزول، حتى بعد موت الحبيب: “سأبقى أحبّكِ طول الزّمان/ وإنْ متُّ كنتُ المحبّ الشّهيد”. (المحبُّ الشّهيدُ، ص109).
إنّ رحلة الدكتور عيد العشقيّة، هي نفسها رحلة ألفونس دو لامارتين نحو العشق الخالد، وذلك في قصيدة “إلى إلفير” :”والحبيبة والحبيب كلاهما، على جناح العبقريّة/ يرتفعان، في رحلة متساوية، نحو الخلود”. وبُعدُ الحبيب هو وهنٌ للعاشق ، والمنزل من دونه ربع خالٍ مكروه: “البيتُ من بُعدِ الحبيب مجاهلٌ/ قد باتَ رَبْعًا خاليًا فَكرِهْتُه” . (سفرُ الحبيب، ص91).

jihane-dr eid cover

وفي السياق عينه، فراق الحبيب موتٌ  للقلب الشّاعر: “وإذا غبتَ عنّي سيموتُ القلبُ رُعبا/ويضيقُ الكونُ عندي ويراه الناسُ رَحبا” (“عُدْ”، ص 97). إنّها أقصى درجات العشق، تلك التي أثارها الدكتور عيد في ديوانه، وقد تبلورت  من خلال: – الغزل: “شعركِ المنساب”(“فلتَقرَبي ضَوعي”، ص103)، “وعلى شعركِ الحريريّ حاكتْ  ضحكة الشّمس خيمةً من نور”(أنقُدي الحَبَّ، ص63). -الشوق والحنين: “وَلَهي إليكِ من النّوى وعذابي ، يُزكي الفؤادَ لحُسنكِ الجذّابِ/… فأحُنُّ للماضي وساعات الهنا (فلتقرَبي ضوعي، ص 103). – الأمل: “نرى الغد الآتي الجميل كأنّه/ بستانُ وردٍ خلف سترٍ مخملِ” (بستان ورد، ص 101). – الوفاء للحبيب: “لا تدعْني يا حبيبي لستُ أرضى عنكَ حُبّا/  لا تضلْ دربي فإنّي لا أرى إلّاكَ دربا” (عُدْ، ص 97).
والحبّ كفاف يوم، بالنسبة إلى الكاتب، لا يقتصر على الوله تجاه حبيبة، بل عشق طاهر إزاء حفيدتيه، في قصيدتَين بعنوان “ماريا”  و”صوفيا”، يقول: “قد رفرفَ الطّهرُ على عينيها، كرحمة الله على العَبْدِ”(حفيدتي، ص65)، ” يا حُسنَها الأخّاذَ، لا يوصف، ولا يُعرف، ولا يُدرك إلا من خلال الحدس”(صوفيا، ص71).
صلاة الحبّ
ويبلغ الحبّ أوجه حين يلامس الصلاة: ” يا سلطانتي في حياتي  ومماتي. هلمّي يا طيبَ الحياة… سرُّكِ… أيّتها الطمأنينة… الزوبعة المقدّسة… العريُ الطاهر… طوّقي قلبي.. بالرحمة… لكِ أبديّتي” (أيّتها الحبّ، ص125). وفي قصيدة تحمل اسم عنوان الكتاب “حبًّا كفاف يوم”، يتعانق كلّ من الحبّ والصلاة: “باسم المحبّ والحبيبة، حبيبتي التي في سماواتي، ليتقدّس حبُّكِ، لتأتِ نعمتُكِ،….لكِ سرّي، الآن وكلّ أوان إلى الأبد، آمين.”(حبًّا كفاف يومٍ، ص127). في هذه القصيدة الحبّ هو الصلاة، بعمقها وأسرارها، والدكتور عيد لا يكتب شعرًا، ولا غزلًا، بل يعتنق الحبّ مذهبًا ودينًا، ويحياه سرًّا مقدّسًا. وما يؤكّد ذلك قوله “كلُّ شعرٍ هو أقصى من صلاةٍ، قد تلاها تائبٌ بالعبَراتِ”(ولأنتِ الحسنُ، ص75). الأمر الذي يعود بنا إلى أجنحة جبران خليل جبران المتكسّرة، الذي تهيّبَ أمام نار سلمى كرامه المقدّسة: “فدنوتُ منها صامتًا وجلستُ بقربها جلوس مجوسيّ متهيّب أمام النار المقدّسة”. (المجموعة الكاملة العربيّة، الأجنحة المتكسّرة، ص230).
إنّ ديوان الدكتور عيد، هو كتاب حبٍّ تصاعديّ، من حبيبة إلى حفيدةٍ فعشق مقدّس له قانون إيمان خاصّ به دعاه “قانون الحبّ”: “أؤمن بحبٍّ واحدٍ، حبٍّ ضابط الكلّ في السّماء على الأرض…” (ص147).
لقد مسّني ديوان ” حبًّا كفاف يومٍ”، بوفائه وعشقه الطاهر، وصلاته! يا لروعة هذا الحبّ الذي يفتقر إليه عالمنا اليوم ، حبّ مجبول بالإيمان الحيّ.

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *