فنان على هامش ملهى…

Views: 6

dr-wael-karameh
د. وائل كرامه

د. وائل كرامه


يحدثُ أن تدخلوا حانةً أو ملهىً ليلياً ما لإحتساءِ مشروب او للسهر والإستكشاف، فترون غالباً ذلك الشخص الذي يجلس بمفرده في إحدى زوايا المكان يراقبُ الآخرين… تشعرون بهِ يتلَّفت نحو الصبايا الجميلات يتأمَّلهُنَّ عن بُعد وبخجلٍ لافت، لا يجرؤ أبداً على القيام من مكانه أو الإقتراب منهُنَّ ليتعرَّف عليهنَّ… يحدثُ أيضاً أن يكون هذا الشخص بديناً بعض الشيء وربما غير جذاب بما فيه الكفاية ولا يملك موهبة الإيقاع بالفتيات من خلال طلَّتهِ البهية أو خفَّة ظلِّهِ أو ماله الوفير (والسلاح الأخير فتاك جداً في عصر السخافة والإبتذال وثقافة المادة)…

pub

صادفتُ أنا شخصاً كهذا في شهر أيار من سنة ٢٠١0، وذلك خلال زيارتي لمدينة روتشستر الأميركية في ولاية مينيسوتا، حيث كنتُ ضمن إختصاصي كطبيب أقوم بزيارةٍ طبيةٍ علمية لبضعة أسابيع لأحد أهم صروح الطب المتواجدة فيها وهو مستشفى “مايو كلينيك” الشهير عالمياً. كُنتُ أجهدُ في العلم خلال النهار، وأستغل بعض ساعات الليل للسهر وإستكشاف المدينة. في إحدى ليالي ذاك الصيف وبعد يوم عملٍ شاق، قصدتُ إحدى الحانات القريبة من المستشفى المذكور ومن الفندق الذي كُنتُ أقيم فيه، فندق “كايلر” (القديم جداً والذي شيِّد عام ١٩٢١ والشهير جداً أيضاً).

pen-drawing-cafe-contour-line-nora-macphail

صادفتُ متل ذاك الشخص، الجالس الوحيد، فور وصولي الى تلك الحانة ؛ كان يجلسُ منفرداً على يمين الصالة الرئيسة يحتسي كأساً. راقبتُهُ جيداً بنفسي هذه المرة، كان بديناً يلبسُ نظارة طبية وثياباً واسعة، رأيتُهُ يتلفَّت نحو إحدى الفتيات الجميلات يتمعَّنُ فيها ومن ثم يركِّز أمامه ويكتبُ. لفتني تصرفه هذا فعمدتُ الى تغيير مكان جلوسي لأقترب منه أكثر وأتلصَّص عليه. تساءلتُ في نفسي: “ماذا يكتب؟ تُرى هل يكتبُ شعراً في الأماكن العامة كما يفعل الكثيرون من الشعراء ومن بينهم حضرة جنابي ؟! “. تفاجأتُ حين جلستُ على مقربة منه على المسطبة الرئيسية للحانة حيث تُقدَّم الكحول، يفصلني عنه كرسيّ واحد. الرجل لم يَكُن يكتبُ، كان يرسمُ حقاً وبقلم رصاص. (simpleeverydaymom)

pub-11

بادرتُه بالحديث بودّ على الطريقة اللبنانية الأميركية: هلو هلو، إسمي وائل، تشرَّفتُ بمعرفتك ، بإمكانك مناداتي بـ “مايك” (اللقب الذي إختاره لي أصدقائي في أميركا، خصوصًا خلال التواجد في أماكن السهر). ذكر لي إسمه، الذي ما عدتُ أذكره، متأهلاً بي بوجهه البشوش. قلتُ له : “ظننتُكَ تكتب شعراً “. أجاب: “لا، أرسم، أخربِشُ بعض الشيء، وآتي هنا كي أرسم بعض الوجوه كجزء من التمرين لتنمية هذا الشيء الذي أحبه، عنيتُ الرسم”. قال ذلك واضعاً بين يدي الدفتر الذي أمامه وكان قد إنتهى على ما يبدو من رسمته الأخيرة : كانت رسمةُ فتاة جميلة جداً لم أجهد نفسي لأعلم أنها الفتاة الجالسة على مقربة منا في الجهة المقابلة لمكاننا.

pub-w

كانت تفاصيل وجهها جداً واضحة. قلَّبتُ صفحات دفتره، وإستمتعتُ فعلاً برؤية وتأمل معظم الوجوه التي رسمها خلال الأسابيع الفائتة. هنَّأتُهُ بحماسة على موهبته بعد ان تبادلنا الحديث الموجز عن مهنتيّ بعضنا وبعض هواياتنا، أخبرته أن هناك شيء مشترك بيننا وهو الفن فأنا شاعر أيضاً وأعشق جميع الفنون والموسيقى . إستأذنتُهُ العودة الى مكاني الأول البعيد معللاً له ذلك وبضحكةٍ: “لا أريدُ أن آخذ من وقتك، ربما تنتظر أحداً أو تريد إكمال الرسم”.
عاودتُ الجلوس بعيداً عنه الى أن جاء صديقي وزميلي الذي كُنتُ أنتظرهُ : قضينا وقتاً ممتعاً تلك الليلة حيث شربنا، سهرنا، وتبادلنا الأحاديث المختلفة على وقع الموسيقى الهادئة أحياناً والصاخبة أحياناً أخرى… أخبرتُ صديقي عن هذا الرجل، وقبل أن نهمّ بالخروج، إقترب منا الرجل عينه حاملاً ورقةً من دفتره : الورقة كانت رسم وجهي بقلمه وبطريقةٍ فنية مدهشة وقريبةً جداً من ملامحي الحقيقية.. قال لي : “هذه هديتي لي يا شاعر، عربون تقدير ومحبة”. تشكرتُهُ جزيل الشكر قبل أن نغادر المكان.

cafe

مرّت السنوات وإحتفظتُ أنا بتلك اللوحة كل الفترة الماضية الى أن صادفتُها منذ عدة أيام في درجِ مكتبي: حملتها بين يديّ، تأملتها، رأيتُ إمضاء ذاك الرجل، فنان الملهى الودود، وأستعدتُ من خلالها كل تلك الذكريات الجميلة والصدفة التي جمعتني برجلٍ فنان على هامش ملهى، رسّام لا أعرف من إسمه سوى الأحرف الأولى وتاريخ لقائنا المدوّن في أسفل اللوحة والمدينة الجميلة التي ينتمي إليها وجمعتنا يوماً سوياً.
الحياة تراكم صُدَف، ووجوه تمرُّ علينا تاركةً أجمل اللحظات الإنسانية على الإطلاق، ولاحقاً حنين الذكريات.
يحدثُ يوماً أن نحيا بقلمِ رجلٍ مجهول نلتقيه على هامش ملهى!
 

wael
اللوحة التي رسمها الفنان… المجهول

 
 

Comments: 0

Your email address will not be published. Required fields are marked with *